بقلم: د.آية عبد الله الأسمر
مع التطور الإعلامي الهائل الذي حدث في القرن الواحد والعشرين، تحولت وسائل الإعلام وأدواته إلى وسيلة اتصال هامة ما بين الشعوب والأمم، ولم يعد المواطن اليوم يكتفي بمتابعة القناة الرسمية لبلده والتي تتبنى دائما وجهة نظر النظام الحاكم وتفصّل برامجها على مقاسه، وتخضع باستمرار لرقابة المسئولين الذين يهمّهم جدا الحفاظ على استقرار الأوضاع الداخلية حتى وإن كانت تلك الأوضاع على فوهة بركان.
عندما ظهرت قناة الجزيرة كأول قناة إخبارية عربية قبل حوالي أربعة عشر عاما أثلجت صدور مشاهديها بما تبثه من أخبار عزّ على المواطن العربي مشاهدتها على قناة أخرى، ثم تطورت القناة بشكل ملحوظ لتغير مجرى الحياة السياسية في المنطقة وتتحوّل إلى قناة إخبارية محشوة لا بآخر الأخبار فحسب، بل بالبرامج الإخبارية والسياسية والاقتصادية والرياضية لتتحوّل بذلك إلى أهم وسيلة اتصال يعتمد عليها المواطن العربي في فهمه للأحداث من حوله، خاصة أنها تعمل بصورة ذكية تتفوق على غيرها من القنوات بشكل الطرح الحيادي والتعبير الحر، بل إنها شكّلت منعطفا حاد ومهما في مسيرة الإعلام العربي عموما، وتحررت من أسوار نقل الخبر وتحليله لتشارك في صياغة الحدث وتداعياته.
نحن نعلم جيدا أن قناة الجزيرة تبث من الدوحة في دولة قطر، كما نعلم أيضا أن قطر من الدول التي هرولت في سباق التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وهي حليفا قويا وشريكا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وهذا وحده كفيلا بأن يسحب من قناة الجزيرة كل بطاقات الاعتماد والصدق والنزاهة والوطنية التي ينشدها المواطن العربي المؤمن بقضيته العربية الكبرى، إلا أننا نعترف بأنها القناة العربية الإخبارية الوحيدة التي تنجز عملها بإتقان من حيث محاولتها الناجحة في عدم تبني وجهة نظر نظام معيّن أو جهة محددة بصورة تفضح تحيزها، وهذا ما لم تتمكن القنوات الإخبارية الأخرى من تجنبه أو على الأقل مداراته ومواربته.
ننتقد دوما قناة الجزيرة لكونها تعتمد على الإثارة في جذب المشاهدين، وهذا وإن كان عاملا أساسيا من عوامل نجاح كل الوسائل الإعلامية بما فيها الوسائل المقروءة والمسموعة، إلا أننا نذم محاولاتها التي يرتئي البعض أنها تخرج من نطاق الإثارة والتشويق إلى إثارة القلاقل وإشاعة الفتن ما بين الدول العربية، بل وتغرس بذور الشك والفرقة وعدم الثقة ما بين الشعوب العربية، وتشكك في ذمة دولة وفي عروبة الأخرى، وتفضح ما ترغب هي في فضحه من وثائق أو أنظمة أو شخصيات سياسية، وقد كتبت في وقت سابق مقالا أنتقد فيه هجوم قناة الجزيرة المتكرر على الأردن، ذلك أننا كدول وحكومات وشعوب عربية كلنا في الهم شرق ولا معنى هادف أو غرض يرجى من محاولة التنظير على نظام هنا أو اتهام نظام هناك، لأن الأنظمة العربية جميعها معلّقة على نوافذ زجاجية هشة أمام حجارة الآخرين، وكلها متورطة فيما آلت إليه الأوضاع المتفجرة في المنطقة سواء على الصعيد الداخلي المحلي لكل دولة أو على الصعيد الخارجي في معركتنا مع العدو، والأجدر بنا أن نعي عدونا الأساسي المتمثل في عدة مفاهيم من ضمنها الفتنة والفرقة والصهيونية والديكتاتورية والفساد، عوضا عن النبش في الأوراق الصفراء وتوزيع الاتهامات.
اليوم قناة الجزيرة بشبكتها الواسعة لا تحتاج إلى الاعتماد على الديماغوجيا الإعلامية من أجل الترويج لنفسها، خاصة بعد أحداث تونس ومظاهرات مصر التي أثبتت خلالهما الجزيرة تفوّقا حصريا لا في نقل ما يحدث داخل تلكما الدولتين فحسب، بل لقد تحوّلت القناة إلى مقر عمليات لثورة مصر الأمر الذي جعل النظام المتهالك هناك يقطع بثّها من قمر النايلسات، بعدما فشلت محاولاته القمعية في التعتيم حول ما يجري في مصر من مظاهرات تطالب بالحرية وبالهواء النقي بعد ثلاثين عام من الظلم والفساد والاستبداد والنهب المنظم لثروات البلاد على يد سلطته وبإدارتها.
كل ما حدث في تونس من مظاهرات وثورة عارمة قذفت برئيسها إلى غياهب الملاجئ كشفته لنا الجزيرة، وكل ما يجري الآن على الساحة المصرية تنقله لنا الجزيرة سواء من خلال قناتها الفضائية أو من خلال الإنترنت على الجزيرة نت، بل إنها تعمل كشبكة اتصال ما بين المتظاهرين في الداخل والمناصرين في الخارج لتطلعهم على آخر التطورات والمستجدات وتحضّرهم للقادم وتخبرهم بالخطوة التالية، كما وأنها تطلعنا على مواقف وآراء دول العالم من الثورات العارمة وموجات الاحتجاج العنيفة التي بدأت تحبو على أرض المنطقة.
لا أعتقد أنني أروّج هنا للقناة لأنني وكما أسلفت أعيب عليها الكثير مما تقوم به من دور سياسي خطير يفوق بكثير دورها الإعلامي، وما زلت أشكك في نواياها وتوجهاتها السياسية إلا أنني أؤمن أننا بالرغم من كل هذا وذاك ما زلنا نتابع تفاصيل الأحداث من خلالها، ونبحث في أروقة القنوات عن برامجها السياسية والحوارية كالملف مثلا وما وراء الخبر وحصاد الأسبوع وشاهد على العصر وفي العمق وحوار مفتوح، والتي تزيد وتدعم وتطور وتعمق الوعي السياسي لدى المواطن العربي من خلال مناقشة الأحداث بموضوعية وعمق ووضوح، ومن خلال طرح كل الأوراق النقاشية على طاولة واحدة للنقاش والبحث والتمحيص بشكل يسمح للمتابع والمتلقي بأن يكوّن فكرة شاملة ومتعددة الأبعاد ومختلفة الاتجاهات عن الحدث المثار أو موضوع النقاش.
قناة الجزيرة اليوم نزلت من كرسي السلطة ولم تعد تأبه بأنظمة الحكم وأصبحت تتحدث بلسان الشعب، وأعتقد أنه يمكن التغاضي عن دوافعها الخفية لبعض الوقت طالما أنها تحقق لنا مكاسب معرفية هامة وحساسة في مرحلة حرجة ودقيقة وخطيرة من مراحل حياة الأمة العربية ونقطة تحوّل أساسية وهامة وحاسمة في تاريخ الشعب العربي، قناة الجزيرة اليوم تتحدث بلغة شعبية لا بلغة رسمية ونحن ننتظر منذ عقود من يتحدث بلغتنا لغة الشعوب.