نتابع الأحداث المتسارعة منذ عدة أيام في بلد الملايين مصر الحبيبة، وكيف إنقلب حال البلد الأكبر في الوطن العربي بين ليلة وضحاها، لتندلع فيه العديد من الحرائق في شوارعه وأزقته وينتفض بعضاً من شبابه مطالبين بالتغيير، ونرجع هنا سوياً تسعة وخمسون عاماً إلى الوراء، وتحديداً إلى ذات الشهر الذي إنطلقت فيه هذه المظاهرات، ولكن في العام 1952م، يوم السادس والعشرون من شهر كانون الثاني/يناير، ذلك اليوم الذي إندلع فيه حريق القاهرة الشهير، حريق إندلع يومها في معظم أرجاء مدينة القاهرة وراح ضحيته العشرات، دون أن يعلم أحد السبب لذلك الحريق في ذلك الوقت، وهو ذات الحريق الذي كان النهاية لنظام حاكم إستفحل في ظلم شعبه والإستهتار بمشاعره وحقوقه، ليتبين بعد ذلك بأن ذلك النظام هو من قام بترتيب ذلك الحريق في ذلك الوقت لإقالة الحكومة ولكن السحر إنقلب على الساحر!!
اليوم وقبل أن يكتمل مرور العام التاسع والخمسون على ذكرى ذلك الحريق وبيوم واحد فقط، يندلع حريق أكبر في القاهرة وجميع أرجاء مصر الحبيبة، للمطالبة بإسقاط نظام إجتهد خلال ثلاثين عاماً في قيادة البلاد، ولكن إجتهاده هذا لم يرشده ولا حتى لإلغاء قانون الطوارئ المقر في البلاد منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمان.
بدأت مقالتي بهذه المقاربة لأوضح تشابه الأحداث في التاريخ مهما إختلفت الشخصيات والوجوه، في العام 1952م وبعد حريق القاهرة بأقل من ستة أشهر ترنح النظام الحاكم، ليسقط أمام إرادة الشعب والجيش المصري الذي وضع حداً للظلم والإستبداد والتبعية للمستعمر الإنجليزي في ذلك الوقت ...
ومثال صغير نسوقه للظلم الإجتماعي الذي كان سائداً في ذلك الزمان، حيث أن مالك الأرض كان يدفع للفلاح الأجير 5 قروش ونصف في اليوم، في الوقت الذي كانت تكلفة غذاء الحمار في اليوم الواحد 9 قروش، والبغل 12 قرشاً، والجاموسة 22 قرشاً، أي أن الحيوانات كانت تتكلف أكثر من تكلفة الفلاح وأسرته في اليوم الواحد !!!
وأمر آخر متعلق بإمتلاك الأراضي الزراعية في ذلك الوقت، وهو أن 35% من مجموع الأراضي الزراعية في ذلك الوقت كان يمتلكه 0.7% فقط من الملاك، بينما 72% من ملاك الأراضي لا يملكون إلا فداناً واحداً فأقل فقط !!
هذا الظلم الإجتماعي هو السبب الرئيس الذي جعل معظم الشعب المصري يساند الثورة في نهاية شهر حزيران/يوليو من العام 1952م حتى إزالة كل آثار النظام الظالم.
اليوم نجد أطيافاً من الشعب المصري تنتفض لإسقاط النظام الظالم \"من وجهة نظرها\"، وقد بدأت تظهر في السنوات الأخيرة مشاهد الظلم الإجتماعي، فنسمع عن إقتصار الملايين والثروات على فئات محددة من الشعب المصري، ونسمع عن موت أحدهم تحت التعذيب خلال التحقيق معه، وعن ذلك الشاب الذي لا يجد لقمة العيش ليعيش هو وأسرته المكونة من سبعة أوثمانية أشخاص حياة كريمة، ولا أحد ينظر إليه ولا يعيره إهتماماً، وغير ذلك من القصص التي ساعدت على الوصول لحريق القاهرة 2011م يوم الخامس والعشرون من الشهر الفائت.
نتأسف كثيراً على بعض حكامنا العرب عندما ينتظرون ويضطرون شعوبهم أن تسمعهم صوتها بهذه الطريقة، ونتأسف أكثر عندما نجد بعضهم يتشبث بآخر أمل له في الحكم حتى وإن كان مقابل ذلك المزيد من التدهور في بلاده.
عندما بدأت المظاهرات كان واضحاً أنها ستسبب مشكلة كبيرة للنظام في مصر، ولكن في حالة واحدة فقط، هذه الحالة هي إستمرار هذه المظاهرات، فإستمرارها سيعني المواجهة بين المتظاهرين ومؤيدي النظام ورجاله، وهذا سيعني سقوط الضحايا الأبرياء من الطرفين، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن الغير مبرر هو إطلاق الرصاص على المتظاهرين والتعامل الوحشي مع المتظاهرين من قبل بعض رجال الأمن في بداية المظاهرات، مما سبب سقوط العديد من الضحايا، وهذه الدماء الزكية التي سالت بلا أي مبرر لن تزيد الهوة إلا إتساعاً بين الطرفين، أضف إليها الخطوات الغربية التي إتخذها النظام مع بداية الأزمة من قطع لوسائل الإتصال عن جميع القاطنين في الأراضي المصرية، ولكم أن تتصوروا حجم المعاناة التي سببتها مثل هذه الخطوة للكثير من الأهالي، إضافة إلى الإختفاء الغريب لجميع قوات الأمن بعد عدة أيام من الأزمة، وهروب الكثير من المجرمين والسجناء، وغير ذلك من الشواهد التي لم يكن أي منها إلا سبباً لمزيد من التدهور والإنحدار بالأمور للأسوء.
لا ندري لماذا لا يختار بعض الحكام أن يعيشوا بين شعوبهم معززين مكرمين، تاركين المكان لغيرهم ليمارس دوره في بناء بلده دون الحاجة إلى الإضطرابات.
لقد ذرفت دموعنا على هؤلاء الضحايا الذين سقطوا برصاص أبناء بلدهم، فقط لأنهم قالوا رأيهم بصراحة، ورفعوا صوتهم ليقولوا بأنهم يعيشون في وطنهم، ولكن هذه الدماء التي إنتفض أصحابها في الدنيا ليمارسوا حقهم كغيرهم من أبناء وطنهم ستطوق الظالم يوم القيامة، عندما تنتفض الدماء لأخذ حقها أمام أعدل العادلين رب العزة والجلال، يومها لن تكون هناك كراسي ولا مناصب دنيوية زائلة، بل ستكون المحكمة العليا عند العادل عز وجل الذي سيأخذ لكل ذي حق حقه.
الشعب المصري الشقيق شعب أثبت حضاريته ووطنيته عبر السنين الماضية، والجيش المصري كان دائماً الركيزة التي يرتكز عليها الشعب المصري بعد الله تعالى، فنتمنى أن تصبح مصر على مستقبل أفضل، فالشعب المصري يستحق الأفضل، ويستحق أن يسمع صوته بعناية أكبر ....
حمى الله بلادنا العربية من الشرور وجنبها الويلات والثبور ...
وفي الختام نهدي هذه الكلمات البسيطة لأحبتنا في مصر:
الوطن في العين لا يروى إلا بماء الأعين ومصر النصر والإكبار هامة لا تنحني
إلا لخالق أكرمها وحباها بالملايين من شعب كالأشجار شامخ لا يعرف للذل والمهانة منزل