زاد الاردن الاخباري -
العرب اليوم - ذكريات حرب...
في ظل الحراك السياسي المتواتر, والمظاهرات المشتعلة ب أرض الكنانة, ورغبة في حياة كريمة يسعى اليها المصريون, بدءا من قراهم إلى محافظاتهم وعاصمتهم العريقة, مرورا بسينائهم وعريشهم ونيلهم وأهراماتهم, حاملين على أكتافهم حلمهم الوطني والاجتماعي والاقتصادي, وبحناجرهم التي ينادون فيها حقوقهم ليلا ونهارا..
وفي ظل ما تشهده أرض النيل والفيوم والأسوان والصعيد وشط الاسكندرية من مجريات سياسية وتغييرات جذرية, تمر ذكرى رحيل سيدة الطرب ام كلثوم السادس والثلاثين - يصادف اليوم - مرورا صامتا, يحز في النفس والروح, لا سيما أن ذكراها مَعلم فني وثقافي عصي على النسيان... تُرى... هل تتململ روحها حبا وشوقا ومؤازرة لما يحدث في مصر- أرض الثورات... موهبتها وذكاؤها الاجتماعي توجاها فنيا
لم تكن الموهبة التي انفردت بها سيدة الغناء العربي أم كلثوم منذ طفولتها, والتي عملت على إذكائها وتنميتها حتى النفس الأخير, العامل الأوحد في مسيرتها الغنائية. فقد كان لذكائها السياسي والإجتماعي العامل الآخر في احتفاظها بمكانة لم يستطع أحد بلوغها رغم السنوات الطوال التي أعقبت رحيلها. وكان للزمن الذي عاشت فيه أيضا, والذي أغدق عليها من نعمائه الكثير, متمثلا بجمهور متعطش لصوت يهز روحه ويطرب لكلمة ولحن يسمو به لعالم خفي من جهة. وشعراء وملحنون ومؤلفون جاسوا كثيرا بحثا عن صوت مصري متدفق كالنيل, وفيه من الحنو الذي يتعتق كلما مادت به السنون من جهة أخرى, الفضل الأكبر في تتويجها سيدة الطرب.
فهل حلمت هذه القروية البسيطة فاطمة ابراهيم البلتاجي الآتية من طماي الزهايرة - محافظة الدقهلية مركز السنبلاوين - أنها ستكون هرما رابعا?!
عندما سئلت يوما عن كيفية اختيار أغانيها للجمهور الذي ينتظرها في المسرح. أجابت: انظر للجمهور من وراء الستارة, وأعرف تماما ماذا يرغب في سماعه الليلة..
وعندما توقع لها الكثيرون أن تتنحى عن الغناء لا سيما بعد دخول ملحنين ومؤلفين تتمايل الحانهم الشبابية مع لغتهم العصرية الحديثة, مثل بليغ حمدي ومحمد الموجي, فاجأتهم بدمائها الفنية الجديدة, وتعاملت معهم بروح ندية باحثة عن ما هو جديد, لتصبح علامة من علامات التغيير الفني, ولم تقف أمام ما انتهى.. بل سعت لأن تكون حاضرة في كل زمن ومكان.. وأضافت لنفسها البقاء ولغيرها الاستمرارية.
فلا غرابة, أن يخرج في وداع السيدة المتفردة صباح الاثنين 3-2-1975 أكثر من ثمانية ملايين نسمة, ولا عجب أن يعتزل ويتوقف محبها ومشاعرها الأول والأوحد أحمد رامي عن التأليف وينأى ملحنها المفضل رياض السنباطي عن عالم الطرب إلا من لحن يتيم قدمه لميادة الحناوي أشواق.
وبين... رق الحبيب, هو صحيح الهوى غلاب, ويا ظالمني, وحيرت قلبي معاك, والاطلال, وثورة الشك, والاوله في الغرام, ودليلي احتار, وبعيد عنك, وفات الميعاد, وكل ليلة وكل يوم, وأنت عمري, ويامسهرني, وجددت حبك ليه..وذكريات وهذه ليلتي.. ومن أجل عينيك عشقت الهوى.... وسنوات عمرها.. كانت رحلة كوكب الشرق في الغناء.
خطوات مضيئة في حياة ام كلثوم
لما كان لقاؤها مع الدكتور أحمد صبري النجريدي 1924 في زيارتها الثانية للقاهرة سببا في انطلاقتها, والشيخ أبو العلا في نجاحها, فقد جاء لقاؤها مع أحمد رامي ومحمد القصبجي شهادة حقيقية لهذا الصوت القادم من رائحة الارياف, واستطاع القصبجي بحرفية ملحن متقن أن يسبر أغوار صوتها ويطلقه في السماء مجددا نغماته بألحانه المتميزة, أولها حالي في هواها عجب وآخرها سيمفونية رق الحبيب المستعصية على الاذن ألا تشتاق الى سماعها بين حين وحين.
كما أثرت ألحان زكريا احمد حياتها الغنائية بالتواشيح الدينية, كما طور زكريا من خلال صوت ام كلثوم أدواته الموسيقية وأسس منهجا غنائيا جديدا مع رفيقه بيرم التونسي, واستخدم الفالس الغربي ليوظفه في اللحن. من دون ان يؤثر على الأصالة. وكان أول لحن اللي حبك يا هناه من شعر رامي فكان الايقاع متميزا. وغنت له من الروائع: الأوله في الغرام الحلم الآهات هو صحيح الهوى غلاب...
و طرز الملحن داوود حسني 1930 صوت أم كلثوم شغفا ورقة مثل شَرف حبيب القلب وكنت خالي يا عين ودموعك في الغرام وآخرها قلبي يعرف معنى الأشواق..
أما الحدث الأكبر, الموسيقار رياض السنباطي الذي التقاها في 1935 وتعاونا في فيلم وداد ليستكملا مع شاعرها وصديقها أحمد رامي رحلتهم الغنائية.. الثالوث الهرمي.
أم كلثوم بين عبدالوهاب وبليغ حمدي
كانت الغيرة والتميز والأصالة والتفرد والبحث عن لحن ينساب في صوت كوكب الشرق, صراع قوي بين محمد عبد الوهاب الذي التقى أم كلثوم في 1964 بلحن أنت عمري, - طوع فيه عبد الوهاب آلة الجيتار, ونجح في اخراج المقاطع اللحنية الصعبة التي لم تكن لتظهر الا في حنجرة ام كلثوم - وبليغ حمدي الذي استدعته عندما سمعت لحن تخونوه, وبدأ التنافس بين عبد الوهاب وحمدي, فغنت بين 1964 - 1969 أجمل الالحان مثل :انت الحب وليلة حب وفكروني ودارت الايام وهذه ليلتي وهي لعبد الوهاب. و ألف ليلة وليلة, وكل ليلة وكل يوم وسيرة الحب, وبعيد عنك وفات الميعاد, وحب ايه اللي انت جاي تقول عليه... فكانت مباراة لحنية الفائز بها العالم الطربي والعربي والعالمي.
كما غنت لكمال الطويل والله زمان يا سلاحي.. وغلبت أصالح في روحي.. وسيد مكاوي يا مسهرني, كان صوتها شهادة مصدقة لمن يدخل عالم الطرب..
أم كلثوم.. أنموذجا للثقافة الفنية والادبية
لم تنظر أم كلثوم الى الغناء هواية أو تسلية, بل منهج حياة وفكر ووجود وثقافة.. لم تكتف بدور المؤدي أو الذي يحفظ بحنجرته, كانت تبحث وتعمل على تغيير ما يناسب ذائقتها الفنية, وتحرص على قراءة عيون الكتب ودواوين الشعر وتختار من نفائس القصائد ما أحبته, وتلتقي بالشعراء والادباء, وتتابع الاوضاع السياسية في مصر كانت أم في الوطن العربي. كانت حراكا فنيا وثقافيا وسياسيا.. لذلك بقيت سيدة الغناء لأكثر من خمسين عاما وما زالت...