د.عماد ملحس
انتهت " جمعة الرحيل " شأنها شأن " جمعة الغضب " المصرية بصمود وثبات لا مثيل لهما ، وبدعوة لاستمرار التظاهر والاعتصام وتكرار المظاهرات المليونية في الأيام القادمة . انتصرت إرادة الشعب وأثبتت انتفاضته أنها عصيّـة على التطويع والإخافة والكسر . فلقد شبّت انتفاضة الشباب عن الطوق ، ولم تعد مجرّد رد فعل على الظلم والاستبداد والفساد فحسب ، بل إنها برفعها شعارها الأساس وهو " الشعب يريد إسقاط النظام " إنما تعبّر عن وعي عميق للطريق الذي يجب سلوكه لتحقيق الحرية والكرامة المفقودتين . فالحلّ ليس إسقاط شخص الرئيس فحسب ، وإنما إسقاط النظام بشخوصه وسياساته وعلاقاته وارتباطاته .
هذه هي نقطة البداية والنهاية ، وإذا كان كثير من القوى والناشطين لم يدرك بعد عمق هذا الشعار ومضمونه ، فإن الإدارة الأمريكية والعدو الصهيوني يدركانه بعمق ، لأنه يعني بالنسبة لهما تغييراً حتمياً في النهج والسياسات يعيد مصر إلى حاضنتها العربية ، ويفضي في المستقبل القريب إلى ضرب المصالح والتدخلات الأمريكية في أكبر وأعرق بلد عربي ، وإلى إنهاء اتفاقيــة " كمب ديفيد" المشؤومة بكل ما خلـّفته من خنوع واستسلام وكوارث .
لقد حققت انتفاضة الشعب العربي في تونس أهدافاً كبيرة حتى الآن ، ولم تستكمل أهدافها النهائية بعد ، ويكفي أنها حرّكت المياه الراكدة في شتى أرجاء الوطن العربي ، وكانت الملهمة والرائدة ، وها هي انتفاضة الشعب العربي في مصر التي حققت اهدافاً مهمة حتى الآن ، تسير قدماً نحو تحقيق الهدف الكبير ، ألا وهو إسقاط نظام التبعية والاستسلام ، وإقامة نظام التصدّي والحرية والعدالة .
صحيح أن الطريق وعرة وشاقة ، لأن الطرف الأمريكي – الصهيوني وأتباعه لن يستسلموا بسهوله ، وسوف يستمرون في وضع العراقيل أمام التغيير الإيجابي ، وفي حرف المسيرة عن توجهاتها الرئيسه ، وفي إثارة التناقضات الثانوية في صفوف الشعب ، لكن الوعي لهذه المخططات المكشوفة والمكرورة والبائسه قد أثبت أن الأمور لم تعد في مصلحة هذا الطرف المعادي ، وأن الأساليب التي كانت تنطلي على كثير من السذج والبسطاء قد عفى عليها الزمن ولم تعد تفعل فعلها . ومع ذلك ، فإنه يجب الحذر من الرموز والقوى التي تعمل على ركوب موجة الانتفاضة من داخلها والمساومة على أهدافها العظيمة .
إن إسقاط مبارك ومحاكمته يجب أن لا يكون نهاية المطاف ، بل يجب العمل على استمرار الانتفاضة حتى اسقاط شركائه في الاضطهاد والفساد والتبعية ومحاكمتهم ، وهم الذين ما يزالون في الحكم حتى الآن ، وتسعى الولايات المتحدة إلى تثبيتهم في المرحلة التي تسميها " انتقاليه " ، بعد أن ثبت لديها أن بقاء مبارك في موقعه قد أصبح مستحيلاً . إن تحقيق ذلك يتطلب أن تفرزالانتفاضة قياداتها الجذرية التي تمثلها ، وأن تبلور رؤيتها وبرامجها الآنية والمستقبلية بوضوح ، وأن ترفض اي شكل من المساومة على أهدافها الرئيسة في الحرية والتغيير وحلّ المعضلات الاجتماعية والمعيشية المتفاقمة ، وفي إعادة مصر إلى دورها المركزي في الصراع مع العدو الأمريكي – الصهيوني ، وفي التصدي لمخططات التفكيك والتدويل التي تطال الوطن العربي من أقصاه إلى اقصاه ، وفي الوقوف إلى جانب المقاومة العربية في فلسطين والعراق ولبنان وفي كل بقعة من بقاع هذا الوطن .
الولايات المتحدة وأتباعها في مصر والعالم ، ما يزالون يناورون ويستخدمون عنصر الوقت لتفريغ الانتفاضة من مضمونها تمهيدا لليّ عنقها ، برفع شعارات مضللة عن الإصلاح والتغيير والظهور بمظهر المؤيد للتحركات الشعبية ، وهم آخر من يحقّ لهم الحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان . فنقل السلطة من طاغية إلى آخر كعمر سليمان الذي يحاولون تلميعه باعتباره رجلاً " نظيفاً ومحترماً ! " ، وهو خريج مدرسة المخابرات المركزية الأمريكية ، وبطل ملف العلاقة مع العدو الصهيوني ، والصديق الحميم والموثوق لقادته ، وميسّر صفقة الغاز الرخيص لهذا العدو ، ليس الا ّ محاولة بائسة مكشوفة للالتفاف على الانتفاضة وإجهاضها . كما أن مطالبة القوى الدولية " بنقل السلطة إلى حكومة واسعة التمثيل في مصر وعلى الفور" ليس الا ّ ذراً للرماد في العيون ، وتهميشاً لقوى الانتفاضة الأساسية لمصلحة القوى السياسية الوسطية والمساومة. أما ما أسمي ب " لجنة الحكماء " – وبصرف النظر عن طبيعة أعضائها وتكوينها - فهي ليست سوى مناورة أخرى لإحداث شرخ في صفوف الانتفاضة ، وحرفها عن مسارها ، حيث بات من الواضح أنها تعمل على تثبيت مبارك حتى نهاية فترة رئاسته وعلى التعاون مع اركان نظامه ، وعلى تسهيل " الحوار " الذي دعى اليه .
ان انتفاضة الشعب العربي في مصر ليست مجرد حركة احتجاجية مطلبية ، بل إنها حركة تغيير عميقة في النهج والسياسات ، ستنعكس آثارها على الوطن العربي بأسره ، فمصر كانت دوماً مركز الثقل في حركة النهوض العربي والإسلامي ، وستبقى كذلك . وأول خطوة في هذا النهوض تتمثل في مجابهة العدو الرئيس المتمثل في الإدارة الأمريكية والعدو الصهيوني وحلفائه وأتباعه ، والخروج من دائرة التبعية والاستسلام ، نحو الاستقلال الحقيقي والتحرّر .
*********************************