قبل ثمانية و عشرين عاما و في ليلة باردة من شتاء عام 1982 كنت منكبا على كتبي ، و روحي و جوانحي مأخوذة بذلك الصوت الملائكي الجميل ينشد "السجن جنات و نار .. و أنا المغامر و الغمار ... ليل السجون يلفني .. و تضمني الهمم الكبار" ، و يسحرني البيان الشجي ببلاغته و صدق عاطفته بأبياته "أماه ديني قد دعاني للجهاد و للفدى .. أماه إني زاحف للخلد لن أترددا" و لم أتردد حينها كما لم يتردد عشرات الألوف من الشباب في الانضمام إلى جموع الصحوة الإسلامية في كل مكان ، و علي أن أعترف لنفسي و لغيري أن أناشيد الشاب السوري المهاجر"أبي راتب" و الذي لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة من عمره كان لها أكبر الأثر في التزامي و تديني و انتهاجي للإسلام حركة و جماعة و دعوة و منهج حياة.
و تقدمنا في الحياة و تقدم بنا العمر و صدى أناشيد أبي راتب يصدح في قلوبنا و أرواحنا "تقدم تقدم فدربك مجد .. و موتك نصر و صوتك رعد .. تبسم بوجه الردى يا فتى .. فإنك ماض لجنات خلد" ، إلى أن حان يوما موعد للقاء مع أبي راتب الطالب الجامعي الذي يدرس في العراق و القادم إلى الأردن في إجازة ليخرج "مهرجان الأنشودة الإسلامية الأول" في الجامعة الأردنية و باستضافة من النادي الأدبي و ليشاركنا فيه "أبو أحمد" و "الترمذي" و ثلة من المنشدين الأخيار، و ربما كان دوري فيه إذ ذاك يقتصر على أحد أفراد المجاميع بلباسهم الأبيض و في لوحة "دار الأرقم" ، و كان أبو راتب قد منعني من الترديد بالصوت مع المجموعة لأن صوتي "الأجش" قد غطى عليهم جميعا و أفسد سلمهم الموسيقي و لوحتهم الإنشادية فاكتفيت بتحريك الأيدي و الشفاه ، و لذا فقد كان أبو راتب يمتدحني دائما بقوله "إن لك أذنا موسيقية .. فقط" و كنت أشاكسه بتقليدي لنشيده بأسلوبه الناعم المتمدن و مخارج حروفه اللينة الشامية البالغة الرقة.
و في "مهرجان الأنشودة الإسلامية الثاني" ارتقى دوري ليسطر لوحة تمثيلية أندلسية كانت مقدمة للموشحات الأندلسية التي اكتست بحلة الكلمات الروحانية و المعاني الربانية و المدائح النبوية ، و تهادى صوت أبي راتب منشدا "يا نجوم الليل غيبي و اتركي الكون ظلام .. و دعينا في محاريب المناجاة قيام" و لتذرف دموعنا شوقا للحبيب في مغناته "عطفا أيا جيرة الحرم .. هواكمو زاد في هيمي .. واصلوني أو عدوني .. قبل تفنى مهجتي و دمي".
و تطور أداء أبي راتب في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي إلى المشاركة في اللوحات الغنائية المسرحية ، حيث أبدع في مسرحية "قرية كان اسمها زيتونة" في أنشودته "و يأتي نهار و يمضي نهار و ترقص في دمعتي الخطوب" ، و مسرحية "مدينة لا تعرف الحدود" في أنشودته التي تحمل نفس العنوان، و يلمع نجم أبي راتب في سماء الأردن و فضاء العالم العربي و الإسلامي و العالم كله بعد ذلك.
لقد غنى أبو راتب لأفغانستان فكانت رائعته "يا قمم جبال سليمان .. النصر لشعب الأفغان" ، و غنى و تغنى بفلسطين و بجندها المجاهدين و هتف "ألف تحية لفلسطين و لجند حماس" ، و غنى فكان وفيا للأردن و أنشد "عشت يا أردن فينا .. عشت نجما في السماء" و تغنى بعمان التي أحبها كما أحب دمشق فقال "عمان يا عمان يا زينة البلدان .. حبك في فؤادي على مدى الأزمان".
و الآن يا أبا راتب أيها الصديق و الأخ و الحبيب ، و بعد أن داهمتك الخطوب في بلاد الغربة، و قدر الله لك أن يبتليك ، تذكر كل اللحظات الجميلة التي قضيتها مع أحبابك في عمان ، تذكر نشيدك لنا في منتزهات عمان ، تذكر مواويلك للقمر معنا على شواطئ العقبة ، تذكر حداءك للحجاج ليلة التقيناك في حالة عمار ، و ساعة عنفك الدكتور فضل عباس على خطأ وقع منك في وزن بيت من الشعر , و أنشد "يا سامعين الصوت" و اصدح "برغم القهر" و اصرخ في وجه السجان "إنهم قادمون".
أما سجانوك الأمريكان الأغبياء فليعلموا أن أحبابك و إخوانك و عشاقك –عشاق الحق- سيزيدون بفعلتهم هذه من عشرات الألوف إلى عشرات الملايين ، لأن كلماتنا كعرائس الشمع تبقى ميتة جامدة لا حراك فيها ، فإذا ما ضحينا من أجلها دبت فيها الحياة ، و علمتنا من جديد نشيد أبي راتب : اكتب حياتك بالدم .. و اصمت و لا تتكلم .. فالصمت أبلغ في جراح الحادثات من الفم .. و الصمت أقوى من رنين القيد فوق المعصم .
المهندس هشام خريسات
hishamkhraisat@gmail.com