يقولون لنا دائما أن مشاكلنا تكمن في ضعف الميزانية، وأقول أن مصائبنا تقبع في سرقة الميزانية وسوء توزيع الميزانية والاختلاسات التي تحدث في الميزانية.
يقولون أن وزير التعليم العالي أقر قانونا سيتمكن من خلاله الطالب الحاصل على معدل مقبول من الالتحاق بالدراسات العليا، وأقول من المفترض أن ينظّم الوزير أمور وزارته ويحفظ مقدّراتها من الإهدار ويحافظ على مكتسباتها، ويصلح مواطن الخلل فيها ويطور برامجها و يرتقي بمسيرتها، لا أن يضيّعها ويصدر قوانينا غير منطقية وغير مدروسة تقوّض أركان العملية التعليمية برمتها، وكأن جامعاتنا بحاجة إلى من يزيدها فسادا وضعفا وركاكة.
يقولون لنعطي الطالب الضعيف فرصة للحصول على شهادة عليا، وأقول لقد أضاع فرصته خلال سنوات البكالوريوس ولا أريد أن يدرس ابني فيما بعد في الجامعة أستاذا كان قد حصل على معدل مقبول ثم حصل على شهادته العليا بالوساطة بعد أن اقتنص فرصة غياب الرقابة عن استهتار الوزراء الذين يعملون لصالح البورصة لا لصالح معايير التعليم.
يقولون أن للوزير صلاحيات كبيرة في وزارته حتى يتمكن من ترك بصماته التي ستسم فترة وزارته، وأقول أن هنالك ثوابت لها مرجعيات محددة لا يجوز للوزير المساس بها حتى لا يترك آثار نتائجها المدمرة تلطخ وجه الوطن وتصم الأجيال القادمة بوصمات الجهل والوهن والأمية المقنعة.
يقولون أننا بحاجة إلى الرسوم التي يدفعها الطالب الجامعي لتحسين ميزانية الجامعة ولنتمكن من الحصول على أموال نستطيع من خلالها الإيفاء بمصاريف الجامعة؛ لهذا نقبل كل من هبّ ودبّ في جامعاتنا ولهذا قمنا باستحداث ما يسمى \"القبول الموازي\"، وأقول عندما تتحول العملية التعليمية إلى مشروع استثماري وتتحول الأهداف التربوية التعليمية إلى أهداف تجارية وتصبح جامعاتنا الرسمية العريقة دكاكين لبيع الشهادات ومؤسسات ربحية في سبيل تغطية ديون نشأت أساسا نتيجة الفساد الإداري والمالي المعشش في مفاصل إدارة تلك الجامعات، فإننا ملزمون هنا أن نتنازل عن معايير التعليم ومستوى مخرجات التعليم ونرضخ لضياع التعليم حتى نتمكن من أن نسدد ديون رئيس الجامعة وزوجة رئيس الجامعة ونائب رئيس الجامعة وأحفاد وجيران وقطط وكلاب رئيس الجامعة وكل أولئك غير المعنيين بالوطن أو بالشعب.
يقولون أن الأستاذ الجامعي بحاجة إلى وساطة من فوق أو من تحت حتى يحصل الطالب على علامة هو لا يستحقها، وأقول هذا ما دفع بالطالب للتطاول على الأستاذ الجامعي عندما فقد الأخير كرامته واحترامه لذاته ولرسالته، وهذا ما يكرس فكرة الطالب الخنوع الذليل الراضخ، وهذا ما جعلنا نسمع بين الحين والآخر عن مشاكل أخلاقية تتعلق بأساتذة الجامعة وطالباتهم.
يقولون أن المعلّم تنازل عن دوره التربوي في غرس القيم النبيلة والمبادئ السامية في تربة الطلبة، وأصبح يدفع بالطالب نحو الدروس الخصوصية ولا يؤدي واجباته كمعلم وقدوة وصانع للأجيال لأنه منهمك في أعماله الأخرى كسائق تاكسي أو بائع خضروات، وأقول ارفعوا عن كاهل المعلم الأعباء المادية وحسّنوا أوضاعه الاقتصادية وامنحوه القيمة التي يستحق، وحمّلوه المسؤولية من خلال المشاركة في طرح القضايا ومن ثم إيجاد الحلول، واضبطوا عمله من خلال ضبط المسئولين عنه.
يقولون أن أولياء الأمور يضغطون على المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات لينجح أبناءهم بل وليحصلوا على تقدير جيد، وأقول ينفذ الفئران من الشقوق والفجوات التي نتركها مفتوحة في الجدران، فعندما نضع نظاما محكما صارما ملزما نحترم قوانينه وقواعده يمكن أن نفرضه بسهولة على الآخرين، ونسد المنافذ أمام متسولي الشهادات وتجار العلم وسارقي الأبحاث والألقاب.
يقولون أن الطالب الراسب في المدرسة سينجح في العام التالي بشكل تلقائي حتى نجبره على الاستمرار بالدراسة، وأقول لهذا نجد طلبة التوجيهي لا يتقنون القراءة ولا يجيدون الكتابة، ولهذا انزلقت العملية التعليمية برمتها في وادي سحيق، وتراجع مستوى التعليم في الأردن، وتلاشت معايير التقييم لمستوى العملية التعليمية، وأصبحنا نخرّج أفواجا من الجهلة والأميين الذين باتوا يتفننون لا في أساليب البحث العلمي بل في أساليب الغش والتحايل على القوانين.
يقولون أن المدارس تزوّد الجامعات بطلبة ضعيفين علميا ونفسيا وعليه فالجامعات تخرّج للطلبة أساتذة ومعلمين غير أكفاء وغير جديرين بحمل هذه الرسالة المقدسة، وأقول أن الفساد مستشري في وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، وأننا نحتاج إلى مراجعة القوانين المتعلقة بكلى الوزارتين لأن التلوث الحاصل في نهر التعليم ناجم عن قذارة المنبع والمصب في آن واحد.
يقولون نريد بيئة مدرسية آمنة ونريد أن نرمم مدارسنا ونحسن مستوى التعليم فيها ونكافئ المعلم المتميز، وأقول نريد علاجا جذريا لمشاكل التعليم في وطننا، ونريد أن نعيد للتعليم وللمعلم وللمدارس والجامعات احترامها وقيمتها وهيبتها مع التركيز على الرسالة المقدسة التي يحملها المعلم والدور الأساسي والحيوي الذي تلعبه المؤسسات التعليمية في صناعة الأجيال وبناء الوطن وازدهار المستقبل، من خلال تعقيم وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي من ميكروبات الوساطة والمحسوبية والفساد والترهل والتسيب، وتنقيتهما من شوائب القوانين المهترئة المتعلقة بأساليب التدريس والتلقين، وحشو رأس الطالب بالمعلومات عبر الإجبار والتخويف والإرهاب، ومناهج التعليم التي نراها تشيخ يوما تلو الآخر وتصاب بأمراض الشيخوخة والوهن والعجز دون أن نتوقف عندها للمراجعة والتقييم والتدقيق، وعمليات التعقيم والتنقية والتكرير هذه لا تتم إلا بأجندة وطنية مدروسة وعلمية ومنهجية تحتاج منا إلى وقفة طويلة وجهد جهيد وإرادة قوية وضمائر مستيقظة وعقولا حكيمة.
يقولون أن الخلل يكمن أساسا في قاعدة الهرم من طلبة وأولياء أمور، ويقول آخرون بل الخلل يقبع أصلا في رأس الهرم من وزراء ومسئولين، وأقول أن أصل الداء يقع في الإنسان الفرد الذي يشكل رأس الهرم وقاعدته، والطامة الكبرى تقع في القوانين غير المفعّلة وغياب قانون المساءلة والمحاسبة، وعدم اللجوء إلى أساليب تعديل السلوك من تعزيز وثواب ومكافآت لتحفيز المخلصين المنتمين الملتزمين، وعقاب ومساءلة ومحاكمة أولئك العابثين المستهترين المتهاونين المارقين، حتى يشعر الطالب وولي الأمر أنه لا مفر أمامه سوى أن يجني ثمرة جهده، وحتى يعلم المعلّم بأنه لا مفر أمامه سوى أن يخلص في عمله، وحتى يتيقن الوزير والمسئول بأنه لا مفر أمامه سوى أن يؤدي واجبه الوطني في الحفاظ على الأمانة التي في عنقه.
يقولون أنت مع المعلم أحيانا ومع الطالب أحيانا أخرى، وأقول أنا مع الصواب والحق والعدل، والحفاظ على كرامة كل منهما، أنا مع أن نحفظ للمعلم هيبته واحترامه وللطالب براءته ومتطلبات مراهقته وإنسانيته، أنا مع أن يؤدي كل من الطرفين واجبهما قبل أن يطالبا بحقوقهما.
يقولون أنت تكتبن من برج عاجي وما جدوى الكتابة، وأقول أنا أكتب من قلب وجعي على الجيل وحرقتي على الوطن, أنا أكتب لأدرأ عن نفسي تهمة القبول والرضوخ والتواطؤ، وأقول إن كانت الكتابة لا تجدي فما جدوى الصمت؟