حينما نتصفح الرجال لِتَعرّفِ منازلها من الشرف ، وتبيّن مواقعها من العِظَم ، وتدبّر أيّهم الأحق بالتقديم ، والأسبق في استيجاب التحية والتكريم ، لا يعتلج في داخلنا ولا يختلج في ثنايا صدورنا ، سوى أولئك الذين منحوا الوطن وأبناءه العزم تلو العزم والثبات تلو الثبات ، بل كانوا العزم ذاته ، ذلك لأنهم الصدق والوفاء ، والأمانة والإخلاص ، فكيف ـ يا يرعاك الله ـ إذا كانوا سُرُج العلم ونبراس الهدى ، ولعمري إنها لتعجز أسلاّت الألسنة واليراع ، ويكبو اللسن الفصيح البليغ ، عن وصف ما يستحقون من الشكر والثناء ، والتقدير والاحترام والوفاء ، ولكن حسبنا أن نقول لهم : جزيتم من الله خير الجزاء ، ومنحكم من الرضا والرضوان ، ما ينخفض دون أعاليه مراقي الإفهام ومرامي سهام الأنام . وحسبنا أن نحمد الله إليكم ، ونشفعه بالسلام عليكم .
أجل أيها السادة ، إنك لا تجد خاصرة في شعاب البوادي ، أو محلة في قرية أو مدينة إلاّ وقد تجلت أنوار هدايته في أركانه ، ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات ) ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ، أجل أيها السادة : فمما لا شك فيه أن أعظم وأرقى وأجل نعم الله علينا بعد نعمة الإيمان هي نعمة العلم ، فكيف إذا توجت بالعمل ؟
وأيْم الحق لا يحق إلا الحق ، وإن الحق أحق أن يُحق ، ذلك لأن كاهل المجد له فرسانه ومغاويره ، وإنّ بحور العلم لها أقطابها وأعلامها ، وإن المبادئ والعقائد لها أربابها وعظماؤها ، وإنّ الدول العظيمة هي التي تبوئ علماءها مكانا عليّا ، لأن الربان الماهر الحاذق ، الذي يستطيع أن يدير دفة القارب إلى شطآن الأمان .
فلا غرو أن يكون هذا الفارس العالِم على لسان كل محب لوطنه ، منتمِ لأمته ، فاستحقاق الحب والاحترام والتقدير والإكرام ، لا يأتي من فراغ ، ولا تنصرف أفئدة الأبرار ولا تنثنى أزِمّة الأبصار ، إلاّ لمن هو أهل لذاك، لقد أفلح مسعاكم ، وحمدت سراكم وانقادت لكم أعراف الأماني ، وذلّت لكم ناصية الرغائب ، وأيْم الحق لو فُجرت بطون الكتب والرقاع بلاغة ، وجمعت أسلّات الألسنة واليراع فصاحة ، لشرح ما لك في نفوس محبيك من مكانة ومحبة صادقة ، لرجعت موسومة بطابع العجز والتقصير.
يا من عشقت المجد والسؤدد ، وجُبلت على الحرية والشهامة ، ورضعت الولاء والانتماء ، وتقلّدت عقد الفضائل ،وورثت شهامة الآباء وشمم الأجداد ، لك منا ألف تحية .
أجل : إنّ استيفاء شرط التكيف مع العقل المنتج ، لمفهوم المواطنة ، وتأصيل الوعي الفكري الذي يقرر أنموذج التواصل بين المثقف العالِم والدولة ، هما من متطلبات الوعي المعرفي ، بالتغييرات الجذرية التي يشهدها العالم ، ولا غرو؛ فمعاليكم الثقة إذا لم يوثق بناصح ـ ومن وثق بماء لا يظمأ أبدا ـ كيف لا ؟ وصفتكم ألصق في سبيل المروءة والكرم وأشد مناسبة للسجاحة والشيم ، وإنّ فيكم شموخا لا يضاهيه شموخا وإباء لا يدانيه إباء ، وعطاء لا يوازيه عطاء ، فسقيا لأرض صدرت عنها ، ورعيا لعشيرة درجت منها ، وبورك ما وثبتم للعمل على مبدئه ، فما رأينا منكم إلاّ عملا للوطن على الوفاء ، لا على الرجاء ، لأن من يعمل على الوفاء ، فبمهنة الأحرار قد عمل بيد من يعمل على الرجاء فبمهنة التجار قد فعل ، وشتان بين اللتيّا والتي .
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا ،وإن أَعطوا أطابوا وأجزلوا ، ولا يستطيع الفاعلون كفعلكم وإن حاولوا في النائبات وأجملوا .
فكم رأيناكم تسعون بكل أمانة وجد ، وتنافحون بكل إخلاص ، في سبيل مجتمع متحضر تنتصر إرادته على التخلف والجمود ، وكم رأيناكم تستلون الحق من خاصرة الباطل ، وكم سمعناكم وقد أنطقتم العجماء ذات البيان ، فلا غرو أن يسجل التاريخ كل منافح مدافع عن حقوق أمته ، وكل مخلص لوطنه ، في سفر المجد الموطد ، والفخر السرمد ،ليكون غرة في جبين الزمان ، وحسبنا من القلادة ما يحيط بالعنق .
الدكتور محمود سليم هياجنه