ما الذي يجعل نفوذ الحركات الدينية أو الخطاب الديني السياسي المعاصر يمتد ويتغلغل لتتعاظم فاعليته وتأثيره أكثر من سواه من أنواع الخطابات السياسية الأخرى؟ أو كيف يمكن لخطاب ما أن يكون له هذه الفاعلية المتعاظمة من التأثير على ذهنية المتلقي، من دون توظيف المقدس أو فك الالتباس مع المقدس داخل المجتمع؟
إن من يقرأ خطاب الحركات الدينية في العالم اجمع يدرك أن الأسباب التي صنعت لها الشعبية والنفوذ، ومكنتها من أن تظهر على سواها من الحركات السياسية ذات التقاليد العريقة في الذيوع والتغلغل الجماهيري، هي إحداثه لدى المتلقي الانصياع المطلوب واستسلامه الوجداني الكامل لمفعول الخطابة السحري. وإذا كان هذا يصدق على خطاب أيديولوجي، فهو أولى بأن يصدق على خطاب يتقن انجاز كيمياء ناجحة يمتزج فيها الاجتماعي بالأخلاقي، والسياسي بالمقدس، ويرتفع عنها أي استفهام من المجتمع. فهو يستعير الطهرانية الدينية في السياسة، فيبدو خطاباً أخلاقياً على مستوى من العفة تنقاد إليه النفوس انقياداً تاماً. وهو يجسد الواقعية السياسية في صورتها الجلية على صعيد الدين، فيقنع متلقيه بأن الإيمان ليس محض عقيدة وشعار والتزام مع الخالق، بل صدوع لشمولية الفكرة.
وهو يستثمر مجالاً رمزياً خالياً من أي منافسة، يغتني به مشروعه السياسي. وهو خطاب بسيط المعاني والمفردات، مملوء بالقداسة، يعبئ المشاعر ويلهب الأحاسيس. فهو من صلب الذهنية العامة التي تنخرط عن وعي كامل في المجال السياسي، لتعيد إنتاج صورة القائم على القيم الدينية، الذي يشكل بذاته قيمة ومجالاً رمزياً كبيراً وغاية في الأهمية. انه واقع التكوين الثقافي للمجتمع، حيث تحتل الفكرة الدينية موقع الصدارة في منظومة الأفكار العامة والسائدة. وهو موقع لم يغير فيه كثيراً التحديث الثقافي في ظل صدامه التاريخي مع الحضارة ، وفشل التحديث في الانتقال من ثقافة نخبوية الى ثقافة جماهيرية. بل أن الثقافة الدينية التي هي ثقافة الجمهور باتت اليوم ثقافة النخب، أو قل ثقافة سائدة ومهيمنة في أوساط النخب، وذلك من طريق تسييس الدين، ونقله من مجال إلى مجال آخر، والعمل المنظم لخلق ثقافة دينية جماهيرية تطغى على خطاب النخب.
ومن الأسباب في تغلغل الخطاب الديني وتأثيره، موقع المعارضة التي تنطلق منها الحركات الدينية . فالحركات الدينية لم تمارس السلطة منذ زمن ، ولم تتجرع الإخفاقات ، ذلك أنها تعبر عن ممارستها بمنزع احتجاجي، لأنه ينطلق من مشروع يتأسس على فكرة الرفض. وهذا الرفض يتغذى من الخندقة الرفضية الدائمة متلحفة بالخلفية الدينية العميقة. ولا يجوز الذهول عن إن القوة الدعوية التعبوية التحريضية الضاربة التي يشكلها الخطاب الرفضوي الاحتجاجي تفتقر إلى ما يترجمها مادياً في صيغة بدائل سياسية قابلة للتحقق، وقادرة على تنمية أو إيجاد حلول ومخارج للأزمة التي كانت في أساس إنتاج الخطاب الرفضوي الديني ، ولمسنا ذلك في المعارك اللفظية الاحتجاجية التي مارستها الحركات الاسلامية هنا في الاردن مع الحكومات المتعاقبه ، وبرزت الاخفاقات في اول ممارسة سياسية عندما فتح المجال امامها واسعا لتكون ممثلا للشعب وقائما على خدمته في السلطة ، ولعلنا بتنا ندرك الان خشيتها من المشاركة الفعلية في العمل السياسي داخل المنظومة الحكومية ، حتى لا تفقد شعرة معاوية التي تربطها بالمفصل المجتمعي ، آثرة ان تبقى صفا خلفيا يبقيها رمزا رفضويا قادرا على حفظ مكانتها التي تتوهم باكتسابها جماهيريا ،، في حين ان الكل بات يدرك ويعي مضامين مسيرتها على مدى العقود الماضية من عمرها في الاردن ، وما حققته من مكتسبات ذاتية لمسها بعضا من افرادها ولم تصيب المتجتمع بأي نفع ،
فهذه القوة قادرة على إرباك الأوضاع السياسية والاجتماعية على المدى المنظور، واستغلال المناخ الديمقراطي ومسـاحة الحريـة الكبـيرة.في بقائها صفا خلفيا رفضويا ،
وثمة تبعات نخشى أن تلقي بنتائجها علينا كإسلام ومسلمين ، منها تحميل الإسلام كعقيدة أوزار أفعال غير راشدة تأتيها بعض الحركات في غمرة انغماسها في معارك السلطة والسياسة، ومنها تحريف معنى الإسلام من كونه عقيدة جامعة للأمة، إلى أيديولوجيا سياسية لفريق منها، مع ما يستتبع ذلك من تكريس للشقاق والفرقة والاستقطاب داخل الأمة الواحدة. ومنها كذلك تكريس نظام كهنوتي يأباه الإسلام بحسبان تنصيب أي جهة، أو جماعة، أو قوة باسمه، ضرباً من الرهبانية التي حاربها الإسلام.
واذا كان توجهها قائم على غير ذلك ، لماذا اذن لم تشارك في الحكم الان وفي ظل حاجة المجتمع لها وهي التي تملك جملة الحلول للخروج من مآزق الفقر والمحسوبية والواسطة والفساد وتلك الاجندة والملفات التي كانت ومازالت تلوح بها جماهيريا ضد الحكومة ،، فلتثبت جدارتها بالفعل لا بالقول والساحة ما زالت مفتوحة ،،،،