سبحان الله والحمد لله على هذه النعمة وهذه الخصوصية لدينا هنا في الأردن, محسودون عليها وأيم الحق. بيانات بيانات بيانات, الأردن هو بلد البيانات بلا منازع, أينك يا جينيس وأين كتابك للأرقام القياسية؟
مصر كتبت تاريخا جديدا للكون, وملايينها الثمانين تحررت, نظامها سقط, وفرعونها يهيم على وجهه في أصقاع الأرض, وكل هذا بستة بيانات يتيمة حتى هذه اللحظة, من المجلس الأعلى لقواتها المسلحة انتفاضا لرأي شعبها وإجماع ناسها.
أما نحن في هذا الوطن المأزوم, فقد قاربت ملايننا الستة على إتمام الدورة الكاملة بإصدار البيان رقم ستة مليون ولم يحاسب لدينا فاسد واحد, ولم يقدم رزيل واحد للمحاكمة, ولم يستأصل سرطان واحد. ولم يسأل حرامي واحد سرق قوت الشعب وسطى على لقمة عيشه.ستة ملايين بيان تقريبا وسجن سلحوب ذو الخمسة نجوم ونصف ما عاد ينتظر أن يقري ضيوفه ويثبت لمنظمات حقوق الإنسان أننا الأوائل تحت الشمس الذين يكافئون فاسديهم ولا يحاسبونهم.
جل ما نقوم به هنا في الأردن ونحن تحاول أن نقرأ الشهادتين في نزاعنا الأخير, هو إصدار البيانات. العشرة تلو العشرة والمائة تلو المائة, بعضها انتقادا للفساد وإشارة للمفسدين, فيسارع البعض الآخر للرد عليها موالاة وتأييدا. زجل جبلي لبناني من الطراز الأول أحيانا يتحول إلى ردح عوالمي, رخيص وسوقي من طراز شارع محمد على أحيانا أخرى.
وبالتأكيد, لا حارب الأول الفساد وقضى على المفسدين ونظف من زبالتهم الوطن, ولا قدم الثاني لأصحاب القرار النصح الإيجابي المطلوب, فأعانهم على تصحيح المسار وترشيد النهج.
البيانات الأولى يا شعبي الكريم التي تشير إلى مواطن الخل وبؤر الفساد, لم تهاجم نظيفا ولم تتطاول على شريف, ولم تستدعي فزعة البقية من الشعب ووقفته البطولية هذه في بيانات مضادة تهاجمها وتحقر أصحابها وتصورهم بأنهم ليسوا أردنيين ولا يحبون فلانا ولا يوالون علانا.
قرأت في الأمس, ثلاثة آلاف شخصية أردنية ترفع برقية ولاء واعتزاز إلى مقام جلالة الملك. قولوا لي بالله عليكم, هل يعني هذا أن بقية الستة ملايين أردني يحتاجون الآن لتوقيع هذه البرقية أو رفع ما يشبهها إلى مقام جلالة الملك قبل أن يوصموا بعدم الولاء لسيد البلاد؟ أم أن التعيينات الحكومية القادمة والوزارات اللاحقة سوف تقتصر على هذه النسخة المصغرة للشعب الأردني التي تضم فقط لائحة الثلاثة آلاف إياها؟
الولاء أيها الأعزاء ليس حديث الساعة ولا عملة اليوم الخاضعة للهبوط والصعود, مثل بورصات النفط والذهب, بل هو قناعة وفكر وعمل واكب الأردنيين منذ نشأة الوطن وتشكل ملامحه الأولى. عبروا مع نظامه الملكي الهاشمي عقودا من الحلو والمر وصنعوا معه الوطن الذي يعتزون به ويفخرون, ولا مجال هنا للمزايدة والمنافسة والحصول على قصب السبق والحظوة. هذا الطريق اختاره الأردنيون وهم يعدون بمئات الآلاف خلف شريف مكة, وأورثوه للأبناء والأحفاد وقد تعدى عددهم الستة ملايين, ولا حاجة بنا ولا داعي لتأكيد الأكيد وتوضيح الواضح كلما \"دق الكوز بالجرة\" فقد سبق وقطعنا العهد والمواثيق التي وقعناها بالدم والضحايا.
وحتى الذين أشاروا للفساد وأصحابه أو لنقل للتجاوزات وأهلها ومراكز القوى والشد العكسي, لم ينقض وضوئهم ولا هم بحاجة لوضوء جديد ولا للحلف والقسم. فإن لهم الحق كل الحق الذي لا يمكن لأحد آن ينازعهم عليه ولا ينتقص منه شيئا, بأن يعبروا عن آرائهم ومخاوفهم وما يشغل بالهم على وطنهم وسلامة مسيرته دون أن يشكك بولائهم ويرجموا بعدم الوطنية.
\"وصديقك من صدقك وليس من صدقك\"
الوطن الأردني العزيز ليس ملكا خاصا لأحد, ولا تركة من سلف لخلف, فلا ينازعنا أحد على حبنا له وانتمائنا لأرضه أو يزايد, ولا يتجرأ أحد على استباحته وبيعه أو مبادلته, وعهد الرجال للرجال أن من يحاول العبث به والبيع والشراء وتحويل ترابه الطاهر المقدس إلى ملايين وحسابات سحت وعهر اقتصادي خسيس, وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة والعقارات خارج الحدود أو في شنطة سفر, لن يجد منا حتى المتسع من الوقت لامتطاء الطائرة أو التسرب عبر الفساد إلى موطئ قدم جديد, ولن نقبل ثانية أن يتكرر مثل باسم البهلوان الذي غادر بالجمل وما حمل من أموال الشعب وجوع الغلابى. ولا بمن يتنعمون بمنتجع سلحوب للتأهيل. وسوف لا نقبل لرموز الفساد بأقل من إقامة الحد والرجم وقطع اليد إلى تشليحهم ما سرقوه, ولن نقف إلا عند ورقة التوت التي تستر عورتهم. ومن ثم وضعهم على حمار أجرب وبالمقلوب وسوقهم معه إلى خارج الحدود المقدسة التي لا تحتمل إلا الأوفياء الانقياء البررة الذين يعطون ولا ينهبون ويخدمون ولا يسرقون, ولا يتغولون بالمنصب العام على إخوانهم وشركائهم بالمواطنة.
جمال الدويري