عندما تتقاعص الحكومات عن القيام بمهامها على الوجه الأكمل، وتركن إلى الدعة والرخاء، وتتحول وظيفتها من خدمة الوطن والمواطن إلى خدمة بعض الجيوب المثقوبة والبطون الجرباء، وتتعامى عن مشكلات المواطنين، وتغلق عيونها عن احتياجاتهم، وتصمُّ آذانها عن أنَّاتهم وشكاواهم، ولا تحسب للمستقبل أي حساب، وتعجز عن قراءة الأحداث، وتحسب الصمت والهدوء رضى وقبولاً، فإنَّ هذه الحكومات لا بدَّ أن تهب عليها رياح التغيير، ومطالبات الإقالة والرحيل، لأنها فشلت في أداء واجباتها الأساسية التي لا تنفك عنها أية حكومة من الحكومات في أية دولة من دول العالم.
مشكلة الحكومات أنها لا تقرأ كتاب التكليف التي شكلت على أساسه، وإن قرأت فإنها سرعان ما تنسى بعد أداء القسم، وينشغل كل وزير بمهام شكلية لا ترقى لمنصبه ووظيفته، لأن كرسي الوزارة غالباً ما يكون أكبر ممن يجلس عليه، ولا أخص بذلك هذه الوزارة، أو الوزارات الأردنية، فهذا الكلام يصدق على معظم الحكومات المعينة في أي دولة من دول العالم، لأن طاقم هذه الوزارات لا يربطهم أي رابط حقيقي، ولم يعينوا على أسس برامجية أو فكرية، بل يغلب عليهم التنفيع والاسترضاء ومراعاة التنويع الجغرافي أو العرقي أو الطائفي.
نظرة سريعة إلى الحكومات الديمقراطية الغربية، ندرك الفرق الجوهري بين حكوماتنا وحكوماتهم، فالحكومات هناك تُختار وفق معايير دقيقة صارمة، فالرئيس أوباما مثلاً، حرص على اختيار فريقه بعد تدقيق وتمحيص ملف كل مرشح، ومع ذلك فقد فشل في تمرير بعضهم في مجلس الشيوخ، واضطر لشطبهم واختيار غيرهم. أما عندنا فما أسهل أن يُختار الوزير، وأسهل منه أن ينال الثقة من مجلس النواب، الذي يتحجج بأن الثقة تعطى للبرنامج وليس للأشخاص، وكأن هناك فصلاً بينهما، وأي برنامج يمكن أن ينفذ على يد وزير لا يصلح ولا يناسب المنصب الذي تولاه؟!
الحكومات الديمقراطية الغربية تتفانى في تقديم الخدمات الضرورية وغير الضرورية، وتحرص على عدم حدوث أية مشاكل، وتسارع إلى حلها إن حدثت دون أن يطالبها المواطنون بذلك، لأن هذا من صلب مهمتها وواجبها، وهي حكومات تستشرف المستقبل، وتستفيد من الدراسات والأبحاث، وترصد الأحداث، ولذلك فهي متقدمة على شعوبها، تقدم لهم كل جديد ومفيد، وكل ما يخدمهم ويحقق مصالحهم ورفاههم، وتحاول أن تكون مبدعة في إجراءاتها وخطواتها وأفكارها ومشاريعها. بينما حكوماتنا تكون في الغالب حكومات متأخرة، تنتهج رد الفعل، والغرق في المشكلات بدلاً من تجنبها أو حلها، ولا تجد ضيراً إن تخلفت عن أداء واجبها، لأن شعارها ما لم يتم اليوم يتم غداً أو بعد غد، فلا قيمة للزمن عندها. أما الدراسات والأبحاث فهي تتم لأغراض دعائية واسترضائية للممولين والمانحين، أما الإبداع والابتكار واستشراف المستقبل فليس في واردها إطلاقاً، لأنها لا تضمن أن تبقى في مكانها ليوم غد، فلم وجع الرأس، وبذل جهود قد لا يسعفها الوقت لقطف ثمارها؟!
إن هذه الحكومات التي تتعثر بأية حصاة، ولا تستطيع أن تحل أية مشكلة مهما صغرت، وتعجز أن تقوم بواجباتها الأساسية، وتسمح لمجاري الفساد أن تجري من تحت أرجلها، ولا تفكر أدنى تفكير بكيفية حل مشاكل البطالة، وغلاء المعيشة، والعنف المجتمعي، وازدياد معدلات الجريمة، والترهل الإداري، وتسيب المال العام، وضعف الإنتاجية، وغياب البحث العلمي، وخلل المخرجات التربوية والأكاديمية، وقصور الخدمات، وضعف البنية التحتية. هذه حكومات يجب أن تتوقع أن تهب عليها رياح التغيير، والمطالبات الشعبية بالرحيل، فهي قد جنت على نفسها، وسمحت للعواصف أن تقتلعها، لأنها لم تحسب لهذا اليوم حساباً، ولم تعمل على تتداركه بالعمل الجاد المخلص الدؤوب، ولم تتجنبه بالسعي الحثيث للقيام بمهامها على الوجه الذي يليق بالوطن والمواطنين، وظنت أن الصبر ضعف، والصمت خنوع، والمجاملة رضى وقبول وحمد لها!
في الأردن خاصة، لا تخلو كتب التكليف السامية من مطالبة الحكومات بالإصلاح في كافة المجالات، وتوظيف مقدرات الوطن، وحل المشكلات، والاهتمام بكافة فئات الشعب، وغير ذلك مما يمكن اعتباره خارطة طريق واضحة لكل حكومة، ولكن تبدو حكوماتنا عاجزة على تمثل كتب التكليف السامية، وتفشل في تحقيق الحد الأدنى المطلوب منه، بل وتخالفه في أحيان كثيرة، وتتنكب الطريق التي رسمها، ومن أمثلة ذلك حكومة سمير الرفاعي الأولى التي جاءت بعد حل مجلس النواب الخامس عشر، حيث أكد كتاب التكليف السامي على ضرورة إصدار قانون انتخاب عصري، فأصدرت الحكومة قانون انتخاب أقل ما يقال عنه أنه لا يمت للعصر بأية صلة، وما زادت الحكومة إلا أن زادت القانون السابق سوءاً وتخلفاً!
المرحلة دقيقة وصعبة، والرياح تهب من كافة الجهات، ومن هنا تأتي ضرورة الإصلاح، وتحسين الظروف، وتهيئة المناخ، واستيعاب المتغيرات، والتعامل مع الأحداث بمرونة وتفهم ووعي، وضرورة التبصر والاستشراف، فالوطن أغلى منا جميعاً، والحفاظ عليه أولوية لا يمكن التفريط بها. ولذا على الحكومة أن تدرك أن الوقت لا ينتظر، فعليها أن تكون على مستوى المرحلة، وأن تبذل أقصى طاقاتها في تحقيق الإصلاح المنشود، وتجاوز العقبات، وحل المشكلات، والسعي الصادق المخلص للحوار الوطني والإصلاح السياسي والاقتصادي، والاستعانة بكافة أبناء الوطن، دون إقصاء أو استبعاد لأي منهم، وتبني الأفكار والمبادرات الجيدة، وكشف أوكار الفساد، وقطع أيدي الذين تجرؤوا على سرقة الوطن، ومناشدة المخلصين والخبراء للنهوض التربوي والأكاديمي والبحث العلمي، والاستعانة بالحكماء لحل مشكلة العنف المجتمعي، ومد اليد لكافة الأحزاب والنقابات والهيئات ومؤسسات المجتمع المدني للعمل معاً على خدمة الوطن، لأننا جميعاً نتفق عليه ولا نختلف، فالوطن يجمعنا، ولكن الحكومات القاصرة غالباً ما تفرقنا!
إن تهم الأجندات الخارجية، وعدم الإنتماء، والعمالة، ووضع العصي في الدواليب، والتخوين، أصبحت عملة مزيفة، قد تنطلي على البعض، ويصدقها القلة، ولكنها ستتحول وبالاً على حامل وزرها ومطلقها، في عصر تكشفت أوراقه، وانفضحت أسراره. ولا يلجأ إلى هذه الأساليب أو الأدوات الرخيصة إلا الضعفاء العاجزون القاصرون، والمراهقون سياسياً وفكرياً، الذين يعيشون في غياهب التاريخ وعلى أرصفة الأحداث!
إن الكياسة والنضج السياسي والمرونة تتطلب من الحكومة أن تتعامل مع الأحداث والمطالبات الشعبية بوعي، فهذه المطالبات لا تستهدفها كأشخاص وإنما سلوكيات يجب أن تتغير، وأساليب يجب أن تتطور، وحقوق يجب أن تعطى، ومشاكل يجب أن تحل، ومطالب يجب أن تتحقق. أما الوقوف في وجه الرياح إن هبت فهو سذاجة وانتحار، ولكن المطلوب استيعابها واستثمارها وتوظيفها لخدمة الوطن، لأنها فرصة مواتية، وظرف تهيئ، وطاقة فتحت!
وفي هذا المقام أثمن كياسة البخيت وفطنته عندما أشار \"إلى ان المطالب التي دعت اليها المسيرات السلمية تتطابق في مجملها مع جهود الحكومة ومساعيها لتحقيق الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي\"، فهذا يؤكد إلى أن الجميع حكومة وشعباً متفقون على ضرورة الإصلاح، ومن حق الشعب أن يطالب، ومن واجب الحكومة أن تستنفر طاقاتها لتحقيق المطلوب دون تأخير، فلا أحد يطلب مكسباً لذاته، أو يتقصد تحقيق مآرب شخصية، وإنما خدمة هذا الوطن، ورفعته، والسعي لأن يكون في المقدمة كما يفترض أن يكون!
ونحن كمواطنين دافعي ضرائب، لا يسعدنا أن تتغير الحكومات وتتبدل الوزارات، لأن كل وزير يأتي يمتص جزءاً من دمنا، وكل حكومة تأتي تشطب عمل من سبقها، وتثقل كاهلنا. ولكن المطلوب أن تقوم الحكومة –أية حكومة- بواجباتها الملقاة على عاتقها، وأن تترجم كتاب التكليف السامي واقعاً ملموساً، وتطبيقاً عملياً، وتحافظ على الوطن ومقدراته، وتكون نظيفة اليد والفرج واللسان، ولا بد أن تدرك أنها جاءت لخدمة المواطنين ورعايتهم، لا لزيادتهم رهقاً، وتحميلهم نصباً، وتنكيد حياتهم، وسرقة لقمة عيشهم، وحرمانهم من حقهم في الحياة الحرة الكريمة، ولا يطلبون أكثر من الحرية والإصلاح والعدالة والشفافية وتكافؤ الفرص والمساواة!
mosa2x@yahoo.com