أول حادثة بلطجة شهدتها بنفسي كانت عام 1988 عندما كنت طالبا في الجامعة الأردنية، حيث انطلقت ذات يوم مسيرة قام بها الطلبة اليساريون، وإذا بمسيرة مضادة تنطلق من عمادة شؤون الطلبة يحمل أفرادها عصيّا طويلة متشابهة تماما في الوزن واللون والطول والأبعاد والسماكة والعرض والنوع "كأنها صنعت عند نفس النجار"، قامت المسيرة المسلحة بتكسير رؤوس اليساريين في المسيرة السلمية ولم تسلم من عصيّهم ومراجلهم حتى الفتيات، وعلمنا من بعضهم أن الشباب كانوا في الليلة السابقة قد اجتمعوا في مكان واحد وشاهدوا فيلما ساخنا، وأهدي كل واحد منهم باكيت دخان أجنبي، وعبئوا ضد أولئك "الملحدين والكفار" الذين يسمون أنفسهم يساريين.
وذات صباح من عام 1995 بعد توقيع اتفاقية وادي عربة، ومع باكورة نشاطات أول لجنة لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني في نقابة المهندسين، عقدنا ندوة لمقاومة التطبيع الثقافي في مجمع النقابات تحت رعاية العين الأستاذ نجيب الرشدان، وما كاد المحاضر الدكتور محمد أبو فارس يلقي ورقته حتى دخل القاعة قرابة عشرين شابا بنفس العمر والطول والرشاقة واللياقة البدنية ونفس حلاقة الشعر "وكأنهم خرجوا من عند نفس النجار"، يقودهم شخص واحد بدأ "يعيّش" أي يقول "يعيش جلالة الملك المعظم" وهم من ورائه "يعيّشون" أي يرددون ما يقول ويصفقون، فلم يستطع المحاضر أن يتكلم، وهنا تدخل الأستاذ الرشدان مخاطبا إياهم خطاب الأب لأبنائه بأنه معيّن من قبل جلالة الملك في مجلس الأعيان، وأن جلالة الملك لا يمكن أن يقبل أسلوبهم هذا، وبدأ "يعيّش" معهم وهم "يعيّشون" دون أن يتمكن من استيعابهم، وهنا ثارت ثائرة الأستاذ سعود قبيلات رئيس رابطة الكتاب الحالي الذي أراد منعهم من التشويش، فرابطوا له في مجمع النقابات حتى المساء يريدون اعتقاله، وقضى سحابة يومه ضيفا في مكاتبنا إلى أن تمكنا له من إيجاد مخرج.
وقبل حوالي عشر سنوات اعتصم النقابيون والحزبيون أمام مجلس النواب ظهر أحد الأيام لنفاجأ برجال السير يحولون السير خصوصا حافلات النقل المتوسطة تجاه المتظاهرين ويوعزون لهم بإطلاق زواميرهم، حتى كاد بعضنا يقضي دهسا ولم نسمع شيئا من كلام الخطباء بسبب الضجيج، ولما لم يفلح هذا الإجراء بفض الاعتصام فوجئنا بعشرات من الشباب أصحاب السوابق جميعهم بلا استثناء مشطبو الوجوه بالأمواس أي فيهم علامات فارقة متشابهة "وكأنهم شطّبوا وجوههم عند نفس النجار"، وكان شكلهم مخيفا يوحي بأنهم خرجوا لتوهم من زنازين المجرمين وربما ما لبثوا أن عادوا إليها، استغربنا تواجدهم المفاجئ في مكان واحد حتى ظننا أنهم خرجوا من حافلة واحدة، واضطررت مع زملاء لي أن نتكاتف ملتحمين لحماية كبار السن في الاعتصام وأطلقنا الشرر من أعيننا بلغة عيون تحدث عن نفسها بقوة وثبات، فأدرك البلطجية مشطّبو الخدود أن معركتهم لن تكون سهلة، ولولا لطف الله لوقعت مجزرة.
وجميعنا نتذكر البلطجية الذين شجوا رأس الشيخ عبد المنعم أبوزنط، والبلطجية الذين كسروا أسنان الدكتور علي العتوم ونتفوا لحيته، والبلطجية الذين شطبوا وجه المهندس ليث شبيلات، والبلطجية الذين مزعوا وجه الكاتب جميل النمري والقائمة طويلة، ونلاحظ بأن أسلوب البلطجية واحد "وكأنهم تدربوا عند نفس النجار".
ويبدو أن البلطجية في كل مكان عندنا وفي مصر وتونس وليبيا قد "تعلموا عند نفس النجار"، وصنعوا عصيّهم المتشابهة تماما "عند نفس النجار" أيضا، ولكن البلطجية المصريين تفوقوا باستخدام البغال وبلطجيتنا لم يصلوا بعد إلى هذا المستوى "المتبغّل".
إن "البلطجة" عقلية وطريقة تفكير مهزومة ومأزومة ومتخلفة، أبشع ما فيها أنها تتمسح بأطهر وأشرف ما نفاخر به، فهي ترفع صور جلالة الملك والملك منها وممن حركها براء، وهي "تعيّش" للملك والملك ليس بحاجة لمشطبي الوجوه ولا أصحاب السوابق ولا مغسولي الأدمغة ليهتفوا بأفواههم النجسة اسمه الطاهر الشريف.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات