عندما بدأ قطار الثورة العربية بالتحرك ابتداء من تونس فمصر ، كان من البديهي أن يتساءل الكثيرون عن المحطة التالية لهذا القطار الذي تأخر كثيرا عن موعده ... وكانت الإجابات على هذه التساؤلات تختلف وتتفاوت حسب رأي المجيب في نضوج عوامل الثورة ( الموضوعية والذاتية ) في قطر ما من أقطار العروبة ... هناك من رشح المغرب أو الجزائر أو البحرين أو اليمن ... أو غيرها من الأقطار ... وكانت ليبيا بعيدة – الى حد ما – عن تكهنات وتوقعات المحللين السياسيين ، ولا تصدقوا من يزعم الآن أنه كان يتوقع أن تكون المحطة التالية للقطار هي ليبيا ... ليبيا القذافي ...
صحيح أن البلدان الأخرى ( الجزائر واليمن والبحرين ... وحتى السعودية ) فيها بعض الإضطرابات وبعض مظاهر التمرد هنا وهناك ، ولكنها لم تنضج بعد لتكون ثورة على النظام تهدد بالإطاحة به وترحيله الى عالم الغيب كما حدث في مصر ومن قبلها تونس ...
أعتقد بأن ما ساعد على أن تكون ليبيا هي المحطة ( الثالثة ) لقطار الثورة العربي ، عدة عوامل ، وأهمها في ما أرى التالي :
1 ) أن معمر القذافي قد أمضى 42 عاما على سدة الزعامة في هذا البلد العربي , وهو بهذا ، ليس أقدم حاكم عربي فقط ( فيما أعلم ) ، بل أقدم حاكم في العالم ...
2 ) لم يكن سهلا على المواطن الليبي البالغ من العمر 50 عاما مثلا ، ان يقتنع برئيس فرض عليه التعايش معه منذ بداية تكوّن وعيه السياسي...
3 ) تغوّل أبناء عائلة العقيد القذافي على الولاية العامة للدولة الليبية مما يعتبرمن أوضح صور الفساد المحمي بالأجهزة القمعية وبحصانة اكتسبها هؤلاء دون وجه حق ، مما أسس بالتالي لإمبراطورية الفساد الضخمة التي ترعرعت ونمت في رعاية هؤلاء الأنجال وتحت حماية الوالد ( القذافي )...
4 ) فشل نظام القذافي في تأسيس القاعدة الصلبة لاقتصاد متين ، علما أن مقوّمات هذا الإقتصاد موجودة ومتوفرة ...
5 ) إهدار ثروات البلاد على مشاريع سياسية ديماغوجية وحالمة ، أثبتت التجربة عدم واقعيتها وفشلها جميعا ، سواء على الصعيد العربي أو الإفريقي، أو مشاريع مع جهات أخرى في قارات أخرى ما وراء البحار والمحيطات ...
6 ) غياب الديمقراطية ... وهذا عامل مشترك بين أغلب البلدان العربية .... ففي غياب الديمقراطية الحقيقية استطاع معمر القذافي أن يدير شؤون البلاد والعباد وكأنه قدر محتوم من السماء ...
7 ) نتج عن غياب الديمقراطية كل ما يمكن تصوّره من انتهاكات لحقوق المواطن الليبي الأساسية ، بما في ذلك امتهان كرامته واستبعاده عن المشاركة السياسية الفعلية ...
8 ) إدراك الشعب الليبي بأن القذافي قد قطع شوطا طويلا على طريق توريث الحكم لأحد أبناءه ( ربما سيف الإسلام )...
* في ظل هذه العوامل وغيرها الكثير ... ماذا فعل القذافي ؟ وكيف كان وما زال يتصرّف ؟
لقد راهن على عاملين أساسيين : شراء الوقت ، وعلوّ الصوت ... شأنه في ذلك شأن كل الحكام الدكتاتوريين الذين تبتلى بهم شعوبهم ... فالحكام الدكتاتوريون متشابهون ... منذ نيرون وحتى القذافي ... حتى إذا ما رأوا النهاية الحتمية تقترب ، وأن شعوبهم قد طفح بها الكيل ، تجدهم يسارعون الى حرق روما وهدم كل ما بنته الأجيال عليهم وعلى شعوبهم ...
ومن شاء له حظه العاثر أن يستمع الى خطاب هذا المهووس ( القذافي ) يوم أمس الثلاثاء ، وخطاب ابنه ( سيف الإسلام ) قبل يومين ، يدرك تماما أن ليس لدى القذافي وأنجاله إلا الكلام ... إلا الصوت ... ظاهرة صوتية فقط لا غير ...