بالأمس بينما كنت أشارك عائلتي العشاء الممزوج بالسخرية من الخطاب الرجعي للرئيس المخلوع من عباءته المخلوعة من جسده ,استأذنتُ نفسي في وضعها بموقع أحد أولئك القادة الذين استلذوا في نهب خيرات بلادهم من أمام أفواه شعوبهم , ولغاية الآن لم أتوصل لطريقة تفكير أو تحليل منطقي لمنهج تفكير أحدهم , هل تبنى أولئك القادة نظرية لا توسط بين الفقر المدقع والغنى الفاحش مثلما تبنى العديد من المفكرين نظرية لا مجال للتوسط بين الأيديولوجيات وهل كان الكاتب الأمريكي \"دانيال بل\" محقاً عندما أورد في كتابه الذي جمع فيه مجموعة من المقالات التي كتبها على مدى سنين ( نهاية الأيديولوجيات) \" إن المشاعر القديمة قد انقضت والراديكالية السياسية والاقتصادية القديمة قد فقدت معناها, وبدأ الأمر واضحا أن العصر الأيديولوجي قد انتهى وثمة إجماع تقريبي بين المثقفين حول قضايا أساسية مثل قبول دولة الرفاه وتفضيل السلطة اللامركزية ونظام يقوم على الاقتصاد المختلط والتعددية السياسية \".
لم تعتقد تلك الزعامات للحظة أن الفقر عندما يصبح مدقعاً يحول ضحاياه إلى أبطال في كل معاركهم , ليس بسبب استحواذهم على الغنائم أو انتصارهم على أعدائهم إنما لعدم وجود ما يخسره أولئك الفقراء في كل جولاتهم , هم لا يحاربون لأجل المسعى القديم وهو الحد الأدنى من متطلبات الحياة بل لأجل الحياة بعينها ومعناها , والحروب عادة ما تخلّف جمالية لا يستلذّ بها سوى من يراها عن قرب, وهي أن الحرب تعيد برمجة معيار الفقر في الدولة, حيث تُفرز فقراء من طراز جديد وزبائن تحمل وجوهاً جديدة للفقر, وهم من تعطّلت بنوكهم أو البورصة لديهم أو متاجرهم ومصارفهم العملاقة ومن جعلوا من أنفسهم فريسة فأصبح المخبز الصغير هو النجم الوحيد بعد أن تبدّلت حوائج العامة في ظل تلك الظروف ...
والدول التي لم تشهد مدنها للآن جدلية الثورة والثروة بعد, لا يمكن لها أن تطلق أحكاما على سلوكيات المتظاهرين في الدول التي تعيد إنتاج نفسها فلا يمكن لبائع اللحمة ان يعود لزوجته في آخر يومه ورائحته تفوح بالياسمين والأوركيد ...ومن الطبيعي ان الإنسان عندما يعود إلى غرائزه ودوافعه البدائية دون روادع فان الحيوانية تغلب على الآدمية ولهذا التحول مبرراته .
لا أعلم حقيقة ماذا كانت تنتظر تلك الأنظمة بعد كل إحصائيات الفقر والفقراء التي كانت تقدمها الهيئات والمنظمات الدولية وكيف لنا أن نجد تأويلاً للمعادلة التي طرحها المفكر خيري منصور بأننا \" نهجر الفقر ونمتدح الفقراء \" هل علينا أن نستحدث مصطلحا يمكن أن يصف الفقر بأكثر مما هو عليه يبدو أن على أصحاب اللغة أن يجتهدوا بذلك فالبوصلة الإنسانية انعطبت وإصلاحها يحتاج إلى عدد أكبر من الضحايا والشهداء والثوار الأبطال , وحتى الفلاسفة أيضا عليهم أن يعيدوا الاعتبار إلى العينات الشريفة التي اجروا تجاربهم عليها بعدان قام منهم بتصنيف الفقر على أنه القدر الذي لا يمكن تجنّبه وعلى من أصابه أن يتأقلم مع ابتلائه ويتهيأ لموته منذ ولادته....
يبدو أن اللحظة تأزف لولادة شرق أوسط جديد بأكمله و على عوامل التعرية الثورية أن تعيد رسم جغرافيا الفقر من جديد وعلى الفقراء أن يطالبوا بالحيوات التي مضت بأثر رجعي مع الأخذ بعين الاعتبار فائض الحرمان الذي تعرضوا له في الوقت الذي كانت نساء الجنرالات تبحث عن ملاجئ لفائض المال الذي تجاوز طاقة الاستيعاب البصري ...
بقلم : عماد مسعود \\ شاعر وروائي عربي