الدكتور عبدالناصر جابر الزيود*
الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ،الحمد الذي عَزَّ جَاهُهُ،وجَلَّ ثناؤُهُ،وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ، الحمد لله الذي مَنْ توكَّلَ عليهِ كفَاهُ،ومَنْ لجأَ إليهِ آوَاهُ،ومَنْ سأَلَهُ أعطَاهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ وصفيُّهُ وخليلُهُ.صلِّي اللهم وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيِّدِنَا محمَّدٍ عبدك ورسولك النبي الأكرم،وعلى آله وأصحابه أهل الشيم والكرم،ومن سلك سبيلهم الأسلم،وطريقهم الأقوم،والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن نِعَمُ الله على الناس تترى كثيرة وكثيرة جدا،وآلاؤُه ومنافعه لا تُعَدُّ ولا تُحصى،ما غابتْ نعمةٌ إلا ظهَر غيرُها،ولا فُقِدَتْ منةٌ إلا أنْعَم على الناس مثلَها،أو خيرًا منها.ومن نعم الله الكثيرة التي أنعمها على عباده نعمةٌ لا يهنأ العيشُ بدونها،ولا يقَرُّ قرارٌ عند فَقْدها،إنها النِّعْمَةُ التي يبحث عنها الكثيرُ،ويخطب ودَّها الصغيرُ والكبير.هي نعمة لا أجَلّ منها ولا أعظم إلا نِعْمة الإسلام،نعمة لا يعرف قيمتها إلا من فقدها هذه النعمة إنَّها نعمة الأَمْن والأمان،والسلامة والاستقرار في الأوطان. فحين خاطَبَ المولى سبحانه وتعالى صحابَةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ذَكَّرَهُم بتفَضُّلِه عليهم بنعمة الأمان،وامْتَنَّانه عليهم بنصره لهم وإيوائه. فقال تعالى:(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).وإنَّ أول أمرٍ طلَبَهُ سيدنا إبراهيم عليه السلام من ربِّه هو أن يجعلَ هذا البلَد آمنًا.(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). وفي آية أخرى قدَّم سيدنا إبراهيم عليه السلام في ندائه لرَبِّه نعْمَةَ الأمن على نعْمة العَيْش والرِّزْق؛ فقال:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). فما هو السبب الذي من اجله قدم سيدنا إبراهيم في دعائه وطلبه من ربه أن ينعم عليهم بالأمن قبل أن يدعوه بان يرزقهم من الثمرات أي الطعام والشراب.لان سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يعلم أنَّ استقرار المجتمع المسلم الذي يهنأ فيه بالطعام والشراب،ويكون نهاره معاشًا،ونومه سباتًا،وليله لباسًا،لا يُمكن أن يتَحَقَّق إلا تحت ظِلِّ الأمن والأمان،فكم منَ الناس نَزْع الله الأمن والأمان من بلادهم؛فعاش أهلُ هذه البلدان في خوفٍ وذُعْرٍ،وفي قلَقٍ واضطراب،لا يَهْنَؤُون بطعام،ولا يَتَلَذَّذُون بشراب،ولا ينعمون بنَوْمٍ،الكل ينتظر حتْفَه بين لحظةٍ وأخرى!.وقد قيل لأحد الحكماء:أين تجد السرور؟ قال:في الأمن،فإنِّي وجدتُ الخائف لا عيش له. فلنعلم أن مكانة الأمن كبيرة،وكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ شهرٌ جديد،ورأى هلاله،سأل الله أن يجعلَه شهر أمن وأمان.قائلاً اللهُمَّ أهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان،والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تُحب وترضى.وفي الحديث الآخر يُذَكِّر صلى الله عليه وسلم الناس بهذه النِّعمة؛ فيقول:مَنْ أصبح منكم آمناً في سِرْبه،معافًى في جسَده،عنده قُوت يومِه،فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرها.حديث عظيم، يخاطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته،ويخبرهم بأن الإنسان يملك الدنيا بما فيها،إذا تحققت له ثلاثة أمور:الأمن في وطنه،والمعافاة في جسده ،وتأمين لقمة العيش،فمن تحققت له هذه الأمور الثلاثة فكأنما ملك الدنيا كلها.فمن أعظم النعم التي انعم الله علينا بها في بلدنا الأردن الغالي هي نعمة الأمن والأمان،نعمة يغفل عنها وعن شكرها كثير من الناس،نعمة افتقدتها كثير من الأوطان والبلدان من حولنا فحصل فيها ما حصل، إنها نعمة الأمن،وما أدراكم ما نعمة الأمن فوالله إن أشهى المأكولات،وأطيبَ الثمرات،لا تُستساغ مع ذهابِ الأمن ونزولِ الخوف والهلع،فإن الديار التي يفقد فيها الأمن صحراءٌ قاحلة،وإن كانت ذاتِ جناتٍ وارفةِ الظلال،وإن البلاد التي تنعم بالأمن تهدأ فيها النفوس،وتطمئن فيها القلوب وإن كانت قاحلةً جرداء.ففي رحاب الأمن،يأمنُ الناس على أموالهم ومحارمهم وأعراضهم،وفي ظلال الأمن،يعبدون ربهم ويقيمون شريعته ويدعون إلى سبيله،وفي رحابِ الأمن وظلِه تعم الطمأنينةُ النفوس،ويسودها الهدوء، وترفرف عليها السعادة،وتؤدي الواجبات باطمئنان،من غير خوفِ هضمٍ ولا حرمان. فإذا تفَيَّأ المجتمعُ ظلال الأمْنِ والأمان،وجَدَ لذَّة العبادة،وذاق طعْمَ الطاعة،فعمرت المساجد،وأُقيمَت الصلوات،وحُفِظَت الأعراض ،وانْتَشَر الخيرُ.وإذا ضعف الأمْنُ واختَلَّ،تبَدَّلَ الحال،ولَمْ يهنأ أحدٌ براحة بال،فتختل المعايِشُ،وتُهْجَر الديار،وتُفارَق الأوطان،فتُقْتَل أنفس بريئة،ويُيَتَّم أطفال ،وتُرَمَّلُ نساء،ولن يدركَ ذلك إلا مَن ذاق وَيْلات الحروب،واصطلى بِنِيرانِها. فلقد أنْعَم الله على كثيرٍ من الأُمَم بنِعْمَة الأمن والأمان،لكنهم لما كَفَرُوا بنعمة الله،وأعْرَضُوا عن شرع الله؛عاقَبَهُم الله،فبَدَّلَ أمنهم خوفًا،فلا تسلْ عما يحلُّ بهم بعد ذلك؛(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). فهذه النعمة لطالما أنعم الله بها علينا ولم نشعر بها ولم نشكر الله عليها يوماً،فإنَّ دوام النِّعَم وشُكْرها مقترنان؛فكُفْرُ النِّعمة يعرضها للزوَال،وشُكرها يطيل أمَد البقاء،فالذنوبُ مُزِيلَةٌ للنِّعَم،وبها تحل النِّقَم.فإنَّ ذهاب الأمن والذي ينتج عنه كثْرة القتل،وإزهاق الأنْفُس،من غير برهان لَهُوَ من علامات آخر الزمان المنذرة بِدُنُوِّ الساعة،التي لا يعلمها إلا الله؛ففي الصحيحَيْن:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:تقارَبُ الزمان،وينقص العمل،ويلقى الشح،وتظهر الفتَن،ويكثر الهرْج،قالوا:يا رسول الله،وما الهرْج؟قال: القتْل،القتْل.
فإن نعمةُ الأمن من نعَم الله حقًّا،حقيقٌ بأن تُذكَر ويذكَّر بها وأن يُحافَظ عليها، ونعمةُ الأمن تُقابَل بالذكر والشكر.والمعاصي والأمنُ لا يجتمِعان، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعم،وبها تحُلّ النقم،وما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنب،ولا رُفِع إلا بتوبة.والطاعةُ هي حِصن الله الأعظمُ الذي من دخله كان من الآمنين.وبالخوف منَ الله ومراقبتِه يتحقّق الأمن والأمان، والتمسُّك بالكتابِ والسنة شريعةً وقِيَمًا وأصولاً اجتماعية عصمةٌ من الفتن.فإن الأمن الذي نعيشه ونتفيؤ ظلاله في بلدنا،إنما هو منحة ربانية،ومنة إلهية،مربوطة بأسبابها ومقوماتها،والتي من أعظمها،الالتزام بشرع الله.فلا بد أن ندرك أن نعمة الأمن التي انعم الله بها علينا لا توجد إلا بوجود مقوماتها،ولا تدوم إلا بدوام أسبابها، والتي من أعظمها توحيد الله والإيمان به وتربية الأمة على طاعة الله والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته.فان لوحة الأمن الجميلة التي نعيشها،نرسمها نحن بأيدينا،ونصنعها بأنفسنا بعد توفيق ربنا حينما نستقيم على ديننا ونؤدي صلاتنا ونبر والدينا ونصل رحمنا ونوقر كبيرنا ونرحم ضعيفنا.لوحة الأمن نصنعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل بعيداً عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية لوحة الأمن،نصنعها حينما نحفظ حدود الله، ونتقي محارم الله،ونشكر نعم الله،لوحة الأمن نصنعها عندما نبتعد عن الشائعات وإثارة الفتن والبلابل في بلادنا من اجل الحصول على مكاسب شخصية دون النظر لمصلحة بلادنا وأهلونا. فحِفظُ الأمن في بلادنا والمحافظة على النعمة التي انعم الله بها علينا أمر لازم بل هو فريضة شرعية.فيجب على الجميع أن ينهلَ من منبع الكتاب والسنّة وان يتمسك بالشريعة الغراء ليسعَدُ الجميعُ بالأمن والرخاء وتدوم علينا هذه النعمة.(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا). نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ علينا امننا واستقرارنا في بلادنا وان يجنبنا الفتن والفواحش ما ظهر منها وما بطن،وان يحسن خاتمتنا في الأمور كلها،وأن يصلح نيَّاتنا وذرياتنا.اللهم آمين .
جامعة العلوم الإسلامية العالمية - كلية الشيخ نوح القضاة للشريعة والقانون