... وباختصار, لا بن علي ولا مبارك وأشباله الميامين ولا العقيد وأنجاله الأبطال, حتى الآن, ركبوا خيلا وجمالا غاروا بها على الشعب, ولا امتطوا صهوة دبابة أو سيارة رعناء هرست العزل وخلطت دواخلهم مع تراب الأرض التي يحبونها, ولا حتى طائرة تصب جام غضبها المبتاع من دم الشعب لتسفك دمه من جديد. لم يفعل أحد منهم هذا شخصيا, فهم أجبن بكثير من المبادرة الشخصية والمواجهة.
إذن والحالة هذه, يجوز السؤال عن من هو الفاعل؟ من هو الذي نفذ أوامر الجبناء القابعين تحت الأرض في جحور محصنة لا تنفذ إليها الذرة؟ ومن هم المستعدون في كل مكان وزمان للسير على الجثث من أجل منحة ذليلة أو مكرمة سحت مغموسة بالعار والأنانية وتكريس الظلم.
إنهم نحن. نعم إنهم الشعب نفسه, أو لنقل للحقيقة والواقع, إنهم جزء من الشعب.
قد تثور ثائرة البعض ويتهمونني, إما بالدفاع عن الحكام, أو بالتهجم وظلم الشعوب. أبدا, تعالوا لنجرد الحساب ونكشف المكشوف والواضح والذي لا يحتاج التبصير وفتح المندل.
زعماء الوطن العربي وبلا استثناء أعدهم الغرب الذي غادرتنا أساطيله وبساطير عسكره منذ فترات وجيزة إذا ما قيست بعمر الحضارات والأمم, لقد أعدوهم جيدا وسلموهم بطريقة أو بأخرى لحماية مصالحهم وتأمين سيطرتهم على مقدرات الشعوب والدول, وهم وسيلة أقل كلفة من الأساطيل والاستعمار المباشر. رغم أن أساطيلهم وعسكرهم قد عاد إلى بعض المواقع في الشرق عندما لم يفلح ممثلوهم من الحكام من تأمين السيطرة لهم وتحقيق الهدف المنشود.
وقد أحاطوهم بطواقم وطنية غير وطنية, أعدت هي الأخرى باستثناءات بسيطة في دهاليز مخابراتهم الغربية الخبيثة, أما كطلاب علم في كافة التخصصات, أو كعسكريين في دورات تدريبية تأهيلية, أو كسفراء ودبلوماسيين يعودن إلى بلدانهم كسواعد طولى لهم في نظام الحكم وإدارة شؤون البلاد. حتى أصبح هناك أنظمة متكاملة, من رأس الهرم إلى قواعد التنفيذيين والمشرفين المباشرين على اليوميات, تطيع لهم بالولاء والأمر, إما عارفين وصاغرين, أو جاهلين مقتنعين بما يأمرون وينفذون.
وعندما تحترق الطبخة, وتفوح رائحة الشواط, وعندما ينكشف المستور, ويعم الكفر والفجور, وتجوع الشعوب خبزا وحرية, وتفتقد إلى أبسط حيثيات الحياة الكريمة تعليما وصحة وعملا وسد رمق, وعندما تغيب العدالة والمساواة والانصاف في تقسيم الثروات الوطنية, وعندما تتغول طائفة المنظومة العليا في الحكم والدوائر التي تحيط بمرمى الحجر في البركة, على عامة الشعب وسواد الأمة, لا يبقى للشعوب إلا الثورة, ولا للجائعين والمنفطرة قلوبهم والمنبطة مراراتهم, إلا النهوض وانتزاع المطلوب من بين أنياب الذئاب والضباع والكواسر.
ويتقابل المعسكرين. بعض الشعب المقهور والمغيب من جهة يقابل بعض الشعب المتسلق والمنتفع مع صاحب الأمر وولي النعمة من جهة أخرى. وقد ينظم إلى هذا المعسكر في الوقت المناسب وبالعيار المناسب قوى الاستعمار الغربي التي لم تغب عن المشهد أبدا, فتحاول استدراك الأمور وتفعيل طاقات جديدة وكوادر جديدة للحكم من بطن الثورة التي تكون قد أهلتها وهيئتها سلفا لاستبدال الكروت المحروقة من الزعامات التي لم تعد مقبولة لشعوبها. ويلجئون في غالب الحالات إلى الدوائر الأبعد من الحاكم المنتهي الصلاحية, والأبعد عن الشبهات والتهم. وما حكاية شاه ايران ومبارك وابن اليهودية العقيد ببعيدة عن هذا السيناريو وواقع الأحداث التي عايشناها ونعيشها, ثم ما هي حكاية الشرق أوسط الجديد الذي يهددونا به صباح مساء؟
أين نحن هنا في الأردن مما سبق؟ لا نشكل يالضرورة شاذة عن هذا الطرح, مع بعض التعديل البسيط الذي تفرضه خصوصيتنا المجتمعية, وتركيبتنا الشعبية, وتاريخ وكيفية تكون دولتنا الحديثة بالتزامن مع تولي الهاشميون دفة الحكم والقيادة هنا, والذين لم نعرف غيرهم سوى حكاما غير وطنيين ودخلاء استعمار وهيمنة, من انجليز وأتراك. شعبنا هنا يميل إلى قبول مشروط للنظام يسبقه تطهير كامل لمفاصله مما اعتراها من فساد وإفساد ومن مراكز قوى وشد عكسي ترى في مصالحها الشخصية ما هو أقدس وأجدر بالخدمة والصون من مسائل الوطن وخدمة المواطن وتأمينه بالحد الأدنى مما يحفظ الكرامة وماء الوجه.
وعود على بدء, فقد خرج بن على في تونس على شعبه بعد أن طفح بهم الكيل وشعر هو بالحم, يقول, فهمتكم, فهمتكم الكل, ولكنه رحل. مبارك, خرج بعد الثانية عشرة بمحاولات بائسة ويائسة للإصلاح والتغيير لم تحميه من عاصفة التغيير ولا حتى محاولته تمثيلية النقل السلس للسلطة. والقذافي الذي لا يحكم وليس له منصب رسمي على حد تعبيره, حاول بالهراء والسفسطة ودور الأراجوز كالمعهود, وحاول بالقوة ونشر الموت والرعب, وحاول بنظام القبائل وفزعة الدم والتخويف من الخراب والفوضى, وها هو انكفأ إلى مخبأ العزيزية المحاصر من كل ليبيا, وبعد أن أراد تطهيرها \"زنقة زنقة\" أصبح هو في زنقة ورقبته بالفخ.
أم هنا, فالقبول بالبلطجة المنظمة ضد قوى الشعب المطالبة بالإصلاح والتغيير إلى الأحسن وتكرر أشكالها, واتساع دائرتها والسكوت على من يقومون بها, حتى من ممثلي الشعب الذين لا يمثلون إلا أنفسهم, وتغليب سياسة تغيير الوجوه لا النهج, وتلبيس الطواقي وترسيخ وتكثيف عمل المكرمات والتشحيد, لا تأدية الحقوق البديهية لمستحقيها, وتسريب الفاسدين ومصاصي دماء الشعب دون محاسبة أو رد للمال العام, لا بل هدر المزيد منه بتنظيم المليونيات الراقصة للنظام والمطبلة للرخاء وطيب العيش في بلد نصف مواطنيه تحت خط الفقر, كل هذا وغيره لا ينذر بخير ولا هو المؤشر السوي على تعلم الدرس وأخذ العبر مما نرى حولنا.
سيدي سيد البلاد, إبحث عن الشهيد وصفي التل بين الأردنيين من جديد, وستجده, الذي لا يسرق ولا يتسلق ولا يتملق ولا يزور ما يصلك, وعندها ستكون ثورتك الشعبية الإصلاحية المنشودة التي سترضي الجميع, اللهم إلا أعداء هذا الوطن في الداخل والخارج.
جمال الدويري