الدكتور عبدالناصر جابر الزيود*
الحمد لله ثم الحمد لله،الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ،الحمد الذي عَزَّ جَاهُهُ،وجَلَّ ثناؤُهُ،وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ،الحمد لله الذي مَنْ توكَّلَ عليهِ كفَاهُ،ومَنْ لجأَ إليهِ آوَاهُ،ومَنْ سأَلَهُ أعطَاهُ.وبعد : يقول تعالى في محكم التنزيل:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).وقال تعالى:(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). لقد بعث الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين القويم الذي أكمله وأتمه،وهذه الشريعة السمحة التي أتمها ورضيها لعباده المؤمنين،وجعلهم أمة وسطاً،فكانت الوسطية لهذه الأمة خصيصة من بين سائر الأمم ميزها الله تعالى بها فقال تعالى:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).ومن اجل ذلك اتصفت هذه الأمة المحمدية بكل صفات الخير والنبل والعطاء للإنسانية جمعاء،وكان من أبرز تلك الأخلاق الحميدة:العفو، والتسامح،والصفح عن المسيء،وعدم الظلم،والصبر على الأذى.فمن أعظم الأخلاق الإسلامية رفعة وعلوا خلق العفو والمسامحة عند المقدرة،وهذا الخلق بل سأقول هذه العبادة المهجورة من قبل الكثير منا في هذا الزمان،علما أن هذا الخلق بل هذه العبادة هي من صفات الله تعالى وأسمائه الحسني فهو سبحانه العفو القدير،أي يعفو بعد مقدرته على الأخذ بالذنب والعقوبة علي المعصية.فالعفو والتسامح صفة عظيمة من صفات الله،فالله سبحانه وتعالى يحب العفو،ويحب أن يري عبده يعفو عن الناس،ولقد ربا الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم علي ذلك الخلق العظيم فقال الله لرسوله:(خُذِ العفو وأمر بالعرف وَأعرِض عن ِالجاهلين َ).ويقول سبحانه وتعالى:(فمن عفا وأصلحَ فأجرُهُ على الله). فالمسلم يجب عليه أن يكون هيناً ليناً سمحاً تقياً،سهلاً عفواً قريباً إلى الناس متودداً إليهم،باذلاً لهم ناصحاً لهم ملتمساً لهم الأعذار في جميع تصرفاتهم اتجاهه،فمن حاول أن يربي نفسه منا على هذه العبادة عاش مستريحا،ينام ويستيقظ وهو في راحة ليس بعدها راحة،وكان من أهل هذه العبادة التي تعتبر من أعظم العبادات.ولقَدْ كانَ لنَا فِي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنةُ فِي التسامحِ والعفوِ، فمِنْ مواقفِهِ صلى الله عليه وسلم التِي تفيضُ حلمًا وسماحةً حينمَا فتحَ مكةَ إذْ قالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ آذَوْهُ وأخرجُوهُ مِنْ بلدِهِ:يا مَعْشرَ قريشٍ ما تَظُنُّونَ أنِّي فاعِلٌ بكُمْ؟.قالوا:خيراً أخٌ كرِيمٌ،وابنُ أخٍ كريمٍ، قالَ:فإنِّي أقُول لكُمْ كمَا قالَ يوسفُ لإخوَتِه.(لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).اذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاءُ.فكان عفوا جميلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،عفو عند المقدرة. ولقدْ تعلَّمَ الصحابةُ الكرامُ رضيَ اللهُ عنهُمْ هذَا الخلقَ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتأسَّوْا بِهِ وطبقُوهُ فِي حياتِهِم العمليةِ.فضربوا أروع الأمثلة بالعفو والتسامح وكضم الغيظ. فما ما أكثَرَ الذين يبحَثون في زماننا عن مصادرِ العزِّة وسبُل الوصول إليها والتنقيب عنها يمنةً ويَسرةً،غيرَ أنَّ هناك مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه كثير من النّاس مع سهولَتِه والقدرة على تحصيله دون مشقة وتعب في تحصيله،فهذه العزّةُ يمكِن تحصيلُها من خلال الدخول من بابَ العفو والصَّفح والتسامح والمغفرة، فطِيبُ النفس وحسنُ الظنّ بالآخرين وقَبول الاعتذار وإقالةُ العثرات وكَظم الغيظ والعفوُ عن الناس كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما دعا إليه الإسلام في تعامُل المسلمين مع بعضِهم البعض.ومَن كانت هذه صفَته فهو جدير بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا،وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه. فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة،وهذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها وتبحث عنها.إنها رِفعة وعِزّة في الدنيا والآخرة،كيف لا وقد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه عز وجل:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ،الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ).فالكاظِمونَ الغيظَ هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس،بل يكفّون عنهم شرَّهم،ويحتسِبون ذلك عند الله عز وجل،أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم،فلا يبقَى في أنفِسهم حقد على أحدٍ.ومن كانت هذه صفته فليبشِر بمحبَّةِ الله له حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان، لقوله تعالى:(وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ). فالعفو والتسامح هو شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والنّفس الرضيّة. ولتعلموا أن العفو والتجاوز لا يعني الذّلَّةَ والضعف كما يصوره البعض،بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى،خاصة إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار.قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما:لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه. هذا هو المنهج الذي جاء الإسلام به جاء ليقضي على نزوات الإيذاء والظلم والتسلط والإساءة إلى الغير ويقيم أركان المجتمع على الفضائل،وحُسن التخلق والصفات النبيلة،فالمجتمع الفاضل الذي يريده الإسلام مجتمع ود ومروءة وخير وفضل وإحسان وعفو وتسامح،مجتمع متماسك البنيان متوحد الصفوف والأهداف، فقلة الحلم والصفح والتسامح آفات تفتك بالمجتمع،وتهدم أركانه وتقطع أواصر المحبة والمودة والألفة التي بين أفراده.فليحاول كل منا ممارسة هذه الأخلاق الكريمة والتحلي بها للفوز برضوان الله وجنته.يقول الإمام ابن القيم:يا ابن آدم إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو،وإنك تحب أن يغفرها لك الله،فإذا أحببت أن يغفرها لك فإغفر أنت لعباده، وإن أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده،فإنما الجزاء من جنس العمل تعفو هنا فيعفو هناك،تنتقم هنا فينتقم منك هناك تطالب بالحق هنا فيطالبك بالحق هناك.(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).فإذا أردت أن تحيا سليما من الأذى،وحظك موفور وعرضك صين،لسانك لا تذكر به عورة أمرء،فكلك عورات وللناس ألسن،وعينك أن أبدت إليك معايبا،فصنها وقل يا عين للناس أعين،وعاشر بمعروف وسامح من اعتدي،وفارق ولكن بالتي هي أحسن.فلنلتمس العذر للآخرين ونقابل الإساءة بالحسنة.عملا بما قاله رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في إحدى خطبه:ألا أخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة؟قالوا بلى يا رسول الله قال:العفو عمن ظلمك،وتصل من قطعك،والإحسان إلى من أساء إليك،وإعطاء من حرمك.(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).(رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).فاللَّهُمَّ اجْعَلْ بَلَدَنَا هَذَا بلدا آمِنًا مُطْمَئِنًّا متماسكاً وجنبنا فيه الفساد والمفسدين والحقد والحاقدين. نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها،وأن يصلح نيَّاتنا وذرياتنا ،ونسأل الله تعالى أن يسلمنا في ديننا وأنفسنا وأعمالنا وبلادنا.
*جامعة العلوم الإسلامية العالمية
كلية الشيخ نوح القضاة للشريعة والقانون