أيمــــن علــــي الدولات
عندما كنا صغارا".. زمان.. كانت أيامنا أحلى وليالينا أقل سوادا"وحلكة.. كانت ضحكاتنا أصفى وأنقى وحبات المطر التي تتساقط على جباهنا أكثر حنانا" والريح التي كانت تلفح وجوهنا كانت أكثر طيبة وأقل سوادا" وتحجرا" وقسوة.. زمان.. كانت أم كلثوم تغني.. ويصمت الجميع.. وكانت أغنية وليد توفيق التي تدعو للكتابة على الشجر تعد رمزا" للشر في برنامج مع المزارع للحاج مازن القبج!! زمان.. كانت ابتساماتنا أصدق والحب يتسرب من بين أصابعنا حين نصافح والقبلات على الخدود تترك أثرا".
زمان.. قطعت جدتي مريم الحدود السورية الأردنية باتجاه الأردن دون أن تمتلك جوازا" للسفر.. فقط امتلكت قلبا" طيبا" وصادفت في طريقها الكثير من القلوب الطيبة.. زمان.. كنا نرتدي الملابس ليلة العيد قبل النوم حتى الأحذية ثم ننام ونحلم ولم يحدث قط وأن تحققت أحلامنا لكننا كنا أكثر سعادة.. زمان.. كان صحن الحمص بخمسين فلسا" وحبة الفلافل بفلسين وكانت دمشق والقاهرة وبغداد أقرب إلينا كثيرا" من لندن وباريس وواشنطن وطهران واسطنبول!! زمان.. كان الليمون أصفرا" والبرتقال برتقاليا" ولم يكن من الممكن الخلط بينهما.. ولم يحدث أن تزاوجا أبدا".. لم يكن هناك أقمار صناعية وخلويات وستالايت وكان التلفزيون الأردني فقط الرقمين ثلاثة وستة لكننا كنا سعداء أكثر!
كان شباط وآذار دوما" متفقين ولم يحدث أبدا" أن أخلفا موعدهما مع البرد والثلج والمطر.. كان زياد يصدقنا حين نخبره أن الأصفر والأحمر أجمل ألوان الدنيا عليه رغم سمرته الشديدة وشعره الأجعد.. لأنه كان طيبا"وكنا طيبين!! زمان.. كان التفاح الأصفر(الميني) أطيب من كل التفاح الأمريكي المصبوغ بالأحمر ولم يكن للحروش اسم آخر يزاحمه ولم يصدف أبدا" أن احتجنا السكين قبل الشراء لإثبات فحولة البطيخ!! زمان كانت سمنة الغزالين والسكر مع خبز الطابون ترويقة الصباح وكانت معداتنا تستسيغها وتحبها ولم نعرف أبدا" أن هناك زيوتا" سوى زيت الزيتون وزيت السيرج المجاني مع علب الحلاوة..
زمان.. كنا نحب رمضان رغم قسوته على شفاهنا وكان إيماننا يغلبنا لإكمال صيامنا رغم محاولاتنا المتعددة للتناسي خلال عمليات الوضوء المتعددة قبل كل صلاة.. زمان.. كان صوت الأذان أجمل وكنا نحبه حتى أذان الإمساك فجرا"كان عزيزا" على قلوبنا..
وكان الدجاج كل الألوان عدا الأبيض والمرتديلا مكروها" وجبنة المثلثات حلال بشروط صعبة وكؤوس الجرس الزجاجية الوحيدة المقبولة لشرب الشاي لدى والدي رحمه الله.. زمان.. كنا نحب آبائنا وأمهاتنا ونعطف على جيراننا ونحترم شيوخنا وعجائزنا وكنا نحب حتى أنفسنا.. كان رضى الوالدين أهم من رضى الجيرل فرند.. زمان.. كان العراق يفوز علينا دوما" بكرة القدم ورغم ذلك كنا أكثر سعادة!!
زمان.. لم يكن الصبار يباع في محلات الخضار الفاخرة بالحبة لأنه لم تكن هناك محلات فاخرة للخضار ولم يكن الصبار مخصصا" للبيع ولم نكن نعلم أن بعضا" من البندورة يمكن أن تلبس رداء" أكثر شفافية وحلاوة لتصبح شيئا" اسمه الكاكا.. وكان الدكتور خميس عباس أكثر حنانا" بكثير من مادلين أولبرايت وغونزاليزا رايس رغم دقته وقسوته عند وضع علامات مادة الكيمياء العضوية في جامعة اليرموك.. زمان.. كان الحشيش الوحيد الذي تعيه ذاكراتنا هو ذاك الأخضر المخصص للماشية وكانت أعواد الملوخية اليابسة أرقى أنواع السيجار المعروف لدى الرفاق وكان الجلي مخصصا" فقط للأكل ولم يخطر ببالنا أبدا" أن الشوكولاتة يمكن أن تتشارك مع الخبز في وجبة واحدة.. زمان.. كان مسلسل العودة إلى بيتون بليس تسليتنا الوحيدة في فترة المساء وكان حميدو وكمال هم فقط أبطال الملاعب.. و.. لم نكن نعلم أن هناك مجموعة كبيرة من الأبطال يسخنون للانقضاض على أحلامنا!!
زمان.. كانت الزرقاء متاهة مملوءة بالغبار وزيارة العاصمة تحتاج إلى تحضير مسبق، وسوق الزرقاء بعيدا" جدا".. وكان دخول المعسكرات يحتاج إلى بطاقة زيارة.. ومسابقات القفز بالزانة تنفذ من على العبارات الممتدة على طول سكة الحديد (بدون زانة).. وكان شارع 36 بالزرقاء الجديدة مرتعا" للضباع ولم يكن هناك حدائق ونوافير.. لكن الزرقاء كانت أجمل بكثير..
زمان. كانت ذنوبنا أقل لكننا كنا نستغفر الله أكثر والله يغفر لنا أكثر.. وكان الوصول إلى ورود الجوري قرب المدفعية حلما"يدغدغ خيال كل الرفاق وإبريق الشاي الصافي يحتاج إلى مشوار لجلب المياه من مصفاة البترول.. كانت مياه الزرقاء شديدة الملوحة لكنها كانت على قلوبنا أحلى من كل المياه المعدنية وكانت الزرقاء أجمل!!
كان الشتاء باردا" والصيف حارا" وكنا نرى أعشابا" وورودا" حمراء وصفراء وزرقاء في الربيع!!
زمان كنا حين نخطئ نعتذر ونعاقب.. وحين نحسن عملا" نكافأ.. وكنا نعتقد أن الأم أحن من الداية.. اتضح أننا كنا مخطئين لأننا أصبحنا في النهاية آلات حاسبة خالية من المشاعر.. تأخذ ما تشاء متى تشاء وترحل دون وداع.