بعده معلّق من أيام جدّي وجدّك ياجدّي، بل وأبعد من ذلك بكثير، إلى مئات السنين، منذ أن طفا على السطح مصطلحا السنّة والشيعة بمرجعيات كلّ منهما الدينية أولا، ومن ثَمَّ ما تبع ذلك سياسيا واجتماعيا، حيث يسود التوجّس والخيفة التي يستشعرها كلّ منهما تجاه الآخر، وما يرشح بعد ذلك من خلاف واختلاف طال الصحابة ولم يتوقف بعد. ليصار بعد ذلك وفي خلاله اقتتال واستباح الحرمات، وتكفير، وإشهار كلّ سلاح يتوافر بين الأيدي في بلاد المشرق العربي وخليجه ، وفي دول إسلامية أخرى كالباكستان؛ حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن، شيعة البحرين والسعودية .... إلخ. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّه أصاب بعدواه المذهب الواحد ليتوزعوا جرّاء ذلك إلى فرق ومذاهب تتجاوز الخلاف وصولا إلى ما أبعد منه، لقناعة كلّ فصيل بأنّه الشعبة التي ستدخل الجنة أما الآخرون فإلى جهنم وبئس المصير. وما زلنا نعيش ونتعامل مع بعضنا على أساس البحث عن مواطن الخلاف بين المسلمين ابتداء في نظرة كلّ منا إلى إماطة الأذى عن الطريق وانتهاء بأساسيات العقيدة.
وأمّا الجانب الدنيوي في تركيبة تفكيرنا فليس بأفضل حال؛ فما زال جلباب الزير سالم، وإزار جساس بن مرة هما اللذان نتدثّر بهما، ونتزمّل بما نسجا من جنوب وشمأل، وبما توارثناه من شرق وغرب من عداوات نبتكرها حينا بعد آخر ما بين دولة عربية وأخرى، وإن لم نجد فلا أقلّ من ابتداع بذور الفتنة والتفرقة داخل البلد الواحد بحيث تتمترس كلّ مجموعة أو فئة وراء جدرها وجدرانها تغرس حقدا، وتروي بغضا، ومن ثمَّ فلن يكون الحصاد غير الشرّ الذي ينساب في مفاصل مجتمعنا العربي والإسلامي ولكنه لايلبث وأن يتفجّر في هذه الدولة أو تلك.
وإن عرّجنا إلى ما يسود هنا وهناك في بلادنا، فسنجد الفساد بكلّ أشكاله وصوره قد بني على أساسات متينة، واستند إلى تشريعات صيغت بأيدٍ تنجّست بعبادة الدرهم والدينار، على أشلاء وبقايا عظام نخرة شهيقها فقر، وزفيرها جوع وعُري. عظام ما إن تتقاوى على وهنها، فتزيل صنما، حتى تصدم بعد حين لتجد أنّ البديل فرعون آخر. ومع هذه الحال التي نحن عليها، فما زلنا نتمرّغ بهذه العقلية وهذا النمط من التفكير من التباغض فيما بيننا والتشاحن والتضاد في مرامينا وغاياتنا.
وها هو الطوفان العربي في كلّ شارع، وزقاق ، وحارة يطالب بإسقاط الأنظمة التي أذاقت شعوبها صنوف الذلّ والهوان، في حين يتمتع الحاكم وزوجته وأولاده وبناته أولا بثروات هذه الجمهوريات، ويتبعهم المقربون والأصحاب والأحباب لكل زوجة وبنت وولد، ويلحق بهؤلاء وأولئك الطفيليون والأذناب والذيول.وتتوقف دائرة المفسدين في الأرض هنا لتنغلق هذه الدائرة ذات المدارات الثلاثة على حالها. وأما الشعب فستين ألف مليون داهية فيه. دعوه على حاله التي ولد عليها وهو ينظر بعين الغبطة لا بل والحسد أيضا على ما ينعم به الغرب من ديمقراطيات بنيت فوق جماجم الملايين التي قتلت في الحربين العالميتين الأولى والثاني، وفوق مدن أبيدت عن بكرة أبيها. ومع هذا فقد ألقى الغرب ماضيه والحروب الطاحنة التي دارت بين دوله خلف ظهره ليتوحدوا في قارة واحدة ينعمون في السيادة والقوى السياسية والاقتصادية وغيرهما. حتى الحرب الأهلية الأمريكية لم تثن هؤلاء في الشمال والجنوب أن يبنوا أعظم قوة في العالم بعد أن داسوا بنمط تفكيرهم الماضي إن كان مدعاة للفرقة والتشتت.
وأما نحن في بلاد العرب؛ فما زلنا نرتدي السروال الذي كان من إيام جدي وجدك ياجدي.