قريباً من دوار المدينة الرياضية في العاصمة عمان مقابل صرح الشهيد، قد يقع بصرك إذا ما التفت يميناً على لافتة قديمة مغبرة ومهترئة أظنها ما تزال قائمة هناك كتب عليها: \"حلويات زلوم\"، وتحت تلك اللافتة المنسية يقبع عدد من المتاجر المتربة المغلقة. \"حلويات زلوم\" تلك، مثلت مشروعاً وطنياً طموحاً لإنتاج أصناف مختلفة من الحلويات التقليدية وتصديرها، عرفه الأردن قبل سنوات، غير أنه انتهى إلى مصير أسود في ليلة ظلماء غاب عنها القمر؛ إذ أحسن صاحب المشروع صنعاً وفرّ به وبجلده إلى القاهرة كي يعيد تأسيسه هناك، خوفاً من أن يصل إلى حدود الإفلاس أو السجن، بسبب السياسات الحكيمة المتعلقة بدعم الاستثمار في الأردن. تذكرت قصة \"زلوم\" وطعم حلوياته التي مررتها الحكومة ـ من المرارة ـ وأنا أقرأ خبراً عن إعلان رجل الأعمال الأردني الشهير طلال أبو غزالة نقل المقر الرئيس لإمبراطوريته الاقتصادية الضخمة من عمّان إلى البحرين، وذلك حسب تصريحه \"نظراً لمقومات أساسية مثل كلفة الاتصال بالإنترنت والبيئة الودية التي تؤمنها مملكة البحرين للأعمال والشركات\".
التأمل في الأسباب التي ساقها الرجل ـ الدبلوماسي والمهذب جداً فيما يبدو ـ في معرض تفسيره لترحيل المقر الرئيس لمجموعة شركاته إلى البحرين من عمان يوحي بأن خلفها ما خلفها، فالاقتصادي المحنك يقول لنا بعبارات غير مباشرة أن البيئة التي يوفرها الأردن للأعمال والشركات هي بيئة منفرة غير ودية، فضلاً عن ارتفاع كلفة الاتصالات فيها. من باب التوضيح، وكي نحاول أن نفهم إلى حد ما الذي يعنيه الرجل بالبيئة \"غير الودية\"، نشير إلى أن أمانة عمان كانت قد استملكت مؤخراً إحدى المباني العائدة ملكيتها لمجموعة شركات أبي غزالة رغماً عنه، بدعوى تحقيق المصلحة العامة، في الوقت الذي اتهم رجل الأعمال الأمانة بأن الاستملاك قد تم من أجل استثمار ما تم وضع اليد عليه لصالح مشروع العبدلي، الذي تنفذه عدة شركات خاصة.
لم تفلح كل علاقات (طلال أبو غزالة) ونفوذه وشركات المحاماة التابعة لمجموعته في الذود عن ممتلكاته التي اقتطعت منه، ويبدو أن الجهات المعنية قررت التضحية به من أجل سواد عيني مشروع العبدلي، الذي تموله وتنفذه شركات عملاقة متنفذة ذات ارتباطات حميمة بنخب من أهل السياسة في دبي وبيروت والرياض وعمان. المقلق أن الرجل ـ فيما نعلم ـ لا يمثل مجرد رجل أعمال جشع لا يؤسف عليه كمعظم رجال الأعمال الذين لا يفكرون إلا بأرصدتهم المالية، بل إنه يجسد رجل اقتصاد مستنير يحمل رؤية متقدمة حول المسؤولية الاجتماعية لرأس المال، انعكست بدورها في العديد من المشاريع التنموية والخيرية التي أطلقها، التي تستثمر في الإنسان وتسعى إلى بناء قدراته وصقلها، ولكن يبدو أن تلك الرؤية لا تساوي شيئاً أمام حسابات الربح والخسارة لحيتان المال والأعمال.
من الواضح أن سياسات تشجيع الاستثمار في البلد ما تزال أسيرة التخبط والارتجال والشخصنة، ولا أريد أن أقول بأنها لا تبدو محصنة جداً من مخاطر الوقوع في شباك الفساد، ومشروع كازينو البحر الميت الذي تتكاثر الشائعات بشأنه هذا الأيام يؤكد صواب هذا الطرح وموضوعيته، فبالإضافة إلى تعارض ذلك المشروع جملة وتفصيلاً من حيث المبدأ مع الدستور والقانون والدين والأخلاق، وهو ما يجعل من محاكمة كل الذين تورطوا في التخطيط له والسعي لتنفيذه ضرورة لازمة لا تسقط بالتقادم، فقد رتّب على موازنة الدولة الفقيرة نتيجة التراجع عنه تبعات باهظة لا قبل لها ولا للبلاد بها، قد تصل إلى ما يزيد عن المليار دينار.
يحتاج الأردن ولا شك، شأنه في ذلك شأن كل البلدان العربية، إلى إعادة النظر جذرياً بمنطلقاته وأولوياته المتعلقة بالاستثمار في موارده البشرية والمادية، فالاستثمار لا ينبغي أن يعزل عن السياقات الاجتماعية والأخلاقية والدينية ليتورط بالاشتغال في أي شيء، ولا ينبغي أيضاً أن يكون من أجل تحويل البلد إلى نموذج باهت يحاول تقليد نماذج مشوهة تؤكد القطيعة مع ما كل ما هو إنساني ونظيف ومشرق في قيمنا وثقافتنا وتاريخنا. يفترض في الاستثمار أن ينبني على أسس واضحة وأخلاقية وإنسانية ضمن مشروع نهضوي متكامل، ينطلق من ثوابتنا العقدية والثقافية، فيقول لنا بوضوح وتحديد من نحن، وماذا نريد، وإلى أين نتجه. ومن دون توافر مثل ذلك المشروع، فإننا سنحول بلداننا عاجلاً أم آجلاً إلى شركات قبيحة يتحكم بها منطق رأس المال المتوحش، ولا تفكر أو تتكلم أو تتصرف إلا بالاحتكام إلى ذلك المنطق السقيم اللئيم.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com