تشي التسريبات الإعلامية والمواقف السياسية الإسرائيلية، خلال الفترة الأخيرة بمقدار الانزعاج مما وصلت إليه العلاقة مع الأردن، وبمدى التوتر المستتر بين الطرفين، جرّاء تعطّل العملية السلمية.
المسؤولون الأردنيون كانوا يتوقعون حملةً إسرائيلية عنيفة على الأردن، منذ مجيء الرئيس أوباما، ويحيلون ذلك إلى الدور الاستثنائي الذي مارسته القيادة الأردنية بدفع الإدارة الجديدة لوضع عملية التسوية في مقدمة أولوياتها، وعزل الحكومة اليمينية الإسرائيلية أميركياً ودولياً.
وفقاً لهذه القراءة، فإنّ ردود الفعل الإسرائيلية الحالية لا تعدو أن تكون تهويشاً مصطنعاً للضغط على مطبخ القرار في عمان، ومناورات تكتيكية في سياق "الهجوم المضاد".
لكن، بقراءة أكثر عمقاً لما يصدر في إسرائيل من تصريحات وتسريبات إعلامية، وما يجري من عصف فكري لديهم، سندرك أنّنا أمام انقلاب استراتيجي في الموقف من الأردن، لا مجرد "رد فعل" مؤقت.
الانقلاب الإسرائيلي، بالطبع، لم يأت من فراغ، بل يتأسس على تغير في القراءة الإستراتيجية الإسرائيلية لمصادر التهديد والمصالح الحيوية. فلم تعد إسرائيل تنظر إلى الدول العربية القومية كمصدر تهديد، وبصورة خاصة بعد حرب العراق، وأصبحت مصادر التهديد الرئيسة هي إيران والحركات الإسلامية خارجياً، و"القنبلة الديمغرافية الفلسطينية" داخلياً (من هنا برز التأكيد على الاعتراف بيهودية الدولة).
بالضرورة، يترتب على ذلك الانقلاب، انعكاسات إستراتيجية عديدة، في مقدمتها العمل على تكريس قناعة دولية وغربية بأنّ الأردن هي دولة فلسطين القائمة على أرض الواقع، إذ يحتوي على أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين، ما يجعل من تغيير المعادلة السياسية الداخلية الأردنية مقدمة أساسية للتأكيد على الدعوى الإسرائيلية أمام المجتمع الدولي، ويؤول إلى تخليص الكيان الصهيوني من أهم الملفات في مرحلة الحل النهائي، وهو ملف اللاجئين الفلسطينيين.
ملامح هذا الانقلاب تكاد تكون واضحة منذ قرابة ثلاثة أعوام، لكن الجديد أننا أمام مرحلة متقدمة، أدت إليها (هنا) ثلاثة متغيرات:
الأول؛ أنّ الحديث الإسرائيلي عن "الحل الإقليمي" و"الدور الأمني الأردني" و"فشل حل الدولتين" لم يعد همساً، ولا خجولاً، بل رسمي، تتم مناقشته من قبل المسؤولين والاستراتيجيين هناك، بل وفي الكنيست، ويروّج له في دوائر القرار في واشنطن.
الثاني؛ تصريحات المسؤولين الأميركيين الأخيرة، وفي مقدمتهم باراك أوباما، بخطأ المبالغة بالتفاؤل في فرص الحل النهائي، والخضوع لضغوط الحكومة اليمينية الإسرائيلية، وليس العكس، كما كان يراهن مطبخ القرار في عمان، الذي يدفع اليوم، وحيداً، كلفة الضغط على إدارة أوباما من أجل التسوية، من دون أن نحصد أي نتيجة إيجابية.
الثالث؛ وهو الأهم، الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، وعدم القدرة على الوثوق بمحور الاعتدال العربي، باعتباره "حليفاً استراتيجياً"، في مواجهة الضغوط الدولية أو أية متغيرات كبرى تعيد بعثرة المعادلة الإقليمية، في الوقت الذي لم يعد يمتلك الأردن أوراقاً إقليمية وأدوات ضغط ونفوذ تساعده على تنويع سلة الخيارات وتوسيع هامش المناورة، وتتسم علاقته بخصوم الولايات المتحدة وإسرائيل، كذلك، بالتوتر!