في كلّ البلاد العربية التي انتفضت شعوبها من قمقمها دون استثناء سادت الفوضى والتخريب والقتل وإسالة الدماء، بل ونشبت حربا بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من فظائع وجبروت وطغيان الاستبداد وعرّابيه، ضد مواطنين عزّل لايملكون من أسلحة سوى قطع قماش يحملونها في مسيراتهم لتصار بعدئذ إلى كساء يلّف بها أكفانهم كموؤدة دُسّت في تراب وطنهم، وهم يهتفون لإصلاح ما فسد، وتقويم ما اعوّج، وتطهير ما نجس بأيدي فرعون ووزيره هامان، وأيدي أبي لهب وزوجته حمالة الحطب.
هذه هي سنّة الأنبياء كلّ الأنبياء؛ فالشعوب لاتبغي إلا الإصلاح عندما يتيقنون أنّ القارب الذي يحملهم يحيد عن جادة الصواب، والسفينة التي تقلّهم انحرفت عن مسراها ومجراها. وسواء أقرأنا التاريخ أم لم نقرأه، فإنّ عامة الناس وخاصتهم، كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم يدرك أنّ الأنظمة التي تتغاضى عن الفساد، وتغض البصر عن آفات تعصف بالمجتمع من رُشىً ومحسوبية لصالح قلّة تجثم على صدور المسحوقين، الأنظمة التي تقوّي بقاءها بأجهزة أمنية تتعامل مع المواطن كأنه حرذون أو جردون كما قيل، هذه الأنظمة وأمثالها إلى زوال لامحالة، وسيبكون على ملك لم يحافظوا عليه مثل الرجال. ويكون مآلهم سجنا شيّدوه بأيديهم من قبل، أو منفى فيه يُعافون ويُحتقرون. وعندما يبحثون عن الكلاب التي كانت تلعق كعب أحذيتهم من المتنفعين في سالف الأيام، سيجدونها قد ولّت وهربت بغنائمها وأرصدتها قبل أن تقع الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة. وستجد هذه الأنظمة نفسها أخيرا في نُزُل من حميم في يومي الدنيا و الدين.
وأما في الأردن؛ فهناك المسيرات التي تنشد وطنا أنقى وأصفى، وطنا أقوى من الغيلان والحيتان والحصينيّات. هذه المسيرات التي لم تقتلع فسيلة، ولم تكسر زجاجا، ولم تمدّ ذراعها إلى أيّ منشأة وطنية تخريبا أو إتلافا. مسيرات تعدّ مدرسة وأنموذجا يقتدى به مادام يتوشّح بالوطن ومفرداته، وبالوطنية واستحقاقاتها من واجبات والتزامات في عنق كلّ منا. فإلى كلّ الخيرين كلمات لابد منها من محبة وإعزاز واحترام.
والكلمات ذاتها نوجهها إلى أجهزتنا الأمنية من أمن عام ومخابرات على الأسلوب الراقي والحضاري والوطني الذي تعاملوا به مع المواطنين؛ فلم نشاهد مطلقا أي مظهر من مظاهر التصادم أو التشنج ، بل شاهدنا سياجا أمنيا من النشامى يحمون المسيرة والسائرين في ركبها، كما رأينا أن من شارك في هذه المسيرات نهارا بات في منزله قرير العين مساء، دون أن يلاحق. صحيح أنّ هذا ما يجب أن يكون، ولكن ومع ذلك، لابدّ من إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه من تقدير واحترام؛ فبالشكر تدوم النعم.