من يراقب الصحف العبرية هذه الأيام يلحظ تناقضا صارخا في تغطيتها لعلاقات تل أبيب مع القاهرة وعمان; شريكتيها في سلام رسمي مرفوض شعبيا; وكذا في مقاربتها حيال "العثمانيين الجدد" القادمين من أنقرة, والعدو-الصديق محمود عباس.
ذلك ليس مستغربا على إسرائيل التي عوّدت العالم على توظيف تكتيكات غالبيتها غير مشروعة لصيانة مصالحها ضمن خطوط حمراء صاغتها لنفسها لا تسمح حتى للحليف الأمريكي بكسرها. فهي تتعامل مع أي طرف من منظور التزامه في حماية مصالحها الحيوية. ولا يبدو أنها تقيم شأنا لكون الأردن, على غرار مصر, ركنا في ما يعرف ب¯ "محور الاعتدال العربي" الموالي لأمريكا. مقابل ذلك تستخدم لغة مزدوجة, ظاهرها التهديد وباطنها تقاسم النفوذ والمصالح مع محور التشدّد بقيادة إيران وعضوية سورية وحلفائهما المحليين; حزب الله الشيعي اللبناني وحركة حماس السنّية الفلسطينية.
التوتر الشديد يشوب العلاقات الإسرائيلية-التركية منذ مجزرة "الرصاص المصهور" في غزة, التي وفرت لتركيا فرصة نادرة للفوز بثقة الرأي العام العربي والإسلامي بسبب تقريعها لقادة إسرائيل عقب العدوان العام الفائت.
تلك المواقف ساعدت تركيا على مضاعفة رصيد "قوتها الناعمة" مستغلة الفراغ الاستراتيجي في المنطقة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ودخول إيران على ملفات المنطقة الملتهبة.
وقاحة إسرائيل وصلت ذروتها قبل ثلاثة أسابيع في طريقة تعاملها المهينة مع السفير التركي المعين لدى بلاط نجمة داوود, ما دفع أنقرة للتلويح بقطع علاقاتها مع تلب أبيب قبل أن تتراجع وتعتذر.
اليوم لا تتوقف الماكنة الإعلامية عن لوم محمود عباس على رفضه آخر عرض أمريكي من أجل إحياء المفاوضات بعد إسقاط شرط تجميد الاستيطان كليا في الأراضي المحتلة.
رئيس السلطة الفلسطينية, لا يريد التفاوض من أجل التفاوض كي لا يساعد إسرائيل على تكريس الأمر الواقع وشراء الوقت لمصلحتها, السمة الغالبة على ممارساتها منذ انطلاق قطار السلام في مدريد عام .1999
عودة إلى أجواء الغيوم الملبدة في سماء عمان وتل أبيب, بحسب مراصد الصحف العبرية, تؤكدها روايات متطابقة من مسؤولين ومن غيرهم. التاريخ يعيد نفسه. فالملك لم يرتح للتعامل مع نتنياهو حين كان رئيسا للحكومة في الوقت الذي اعتلى فيه العرش عام .1999
اليوم هناك شبه قطيعة بين الملك عبد الله الثاني وبنيامين نتنياهو الذي يمعن في إحراج الأردن ويهدّد مصالحه الإستراتيجية العليا. منذ شكّل حكومته المتطرفة العام الماضي, لم يلتق زعيم الليكود مع الملك سوى مرة واحدة في عمان من باب إسناد جهد الرئيس الأمريكي الجديد على استئناف المفاوضات صوب قيام دولة فلسطينية مستقلة.
يوم الجمعة التقى الملك عبد الله الثاني في دافوس الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز. وخلال جلسة حوارية في المنتدى الاقتصادي العالمي, قال الملك إنه متشائم لأول مرة من الوضع الذي آلت إليه جهود السلام. ومضى إلى تنبيه المجتمع الدولي أنه في حال أخفق في إطلاق محادثات جادة وفعالة خلال الشهر المقبل ستتضاءل فرص السلام بشكل كبير, وسيدفع الثمن العالم برمته.
وللمرة المليون رفض أي حديث عن أي دور أردني في الضفة الغربية, مشددا على أن عمان لا تقبل حتى مناقشة هذا الطرح الذي يستحضره ساسة إسرائيل كلما شعروا بعمق المأزق والعزلة.
الأيام المقبلة قد تحمل المزيد من الانتقادات الإسرائيلية. فالمواقف الملكية لا تعجب ساسة هذه الدولة. سنتوقع مزيدا من البرود في العلاقات الرسمية, مقالات وتوصيات بضرورة إقحام الأردن ومصر كشركاء سلام بالإنابة عن الفلسطينيين المنقسمين.
في المقابل, تسطع حرارة الشمس في سماء تل أبيب والقاهرة, حسبما تعكس التقارير الإخبارية وتعليقات المسؤولين.
نتنياهو زار مصر عدة مرات خلال العام المنصرم. كذلك فعل وزير الدفاع إيهود باراك وبيريز. اللواء عمر سليمان, مدير الاستخبارات, زار تل أبيب مرارا للتوسط من أجل فك أسر جلعاد شاليط, الذي أسرته حماس قبل ثلاث سنوات. مصر تحتكر الملف الفلسطيني برمته, مستغلة تراجع دوره في الإقليم وتناحر العرب. بذلك ينحصر دور الأردن في دعم دبلوماسي للرئيس الفتحاوي عباس وتوظيف علاقاته مع الغرب لحثهم على إحقاق السلام.
حكام إسرائيل لا بد مسرورين هذه الأيام لأن مصر تواصل لوم حماس على حرق ورقة المصالحة مع فتح. ويبدو أن مصر تتجه لعزل حماس وإسقاطها في قطاع غزّة بعد أن أمسكت بالملف الغزّي. مصر وإسرائيل تقودان حربا مشتركة ضد "التهريب والأنفاق والإرهاب". تصلّب مصر تجاه قافلة "شريان الحياة" المتجهة إلى غزة قبل شهر يندرج ضمن ذلك المسعى.
اليوم يغرس جدار فولاذي في أحشاء الأرض لحماية أمن إسرائيل بعد استصدار فتوى أزهرية بمشروعيته في حماية الأمن القومي المصري. وقبلها انضمت مصر إلى إسرائيل وأمريكا في الضغط على عباس حتى يعود إلى المفاوضات من دون شروط.
إذا هذه الإجراءات تخدم مصالح إسرائيل العليا. أما مواقف الأردن, تركيا وفتح فلا تخدم موقف إسرائيل في زمن تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بقضية فلسطين المستعمرة منذ 1948 وسط إصرار ممنهج على تقزيمها من سياسية إلى إنسانية.
فالأردن الرسمي أكثر المتأثرين من غياب أفق قيام دولة مستقلة داخل حدود عام .1967 ذلك أن تسوية هذه القضية نهائيا قد تساعد غالبية الأردنيين من أصول فلسطينية على حسم أمر ثنائية الهوية والولاء.
الملك كسر أخيرا قواعد اللغة الدبلوماسية. استخدم كلمات قاسية ليحذّر إسرائيل من تداعيات سياسات تهويد القدس ومقدساتها التي تخضع لرعاية الأردن. وحّملها أيضا مسؤولية اندلاع عنف في المنطقة والعالم الإسلامي وأي تهديد لأمن العالم واستقراره. صحيح أن الخطاب الرسمي ما يزال متمسكا بإستراتيجية السلام, لكنه يتحدث بصراحة عن دور إسرائيل في عرقلة جهود إدارة باراك أوباما في إحياء السلام, ويطالب بوقف الاستيطان الذي يقطع أوصال الجغرافية والديمغرافيه. وما تزال عمّان ملتزمة بتجميد الاتصالات التي دامت بضعة شهور مع حماس قبل أن تعلّق أواخر ,2008 بعد تنامي الاعتراضات الإسرائيلية والأمريكية, وحتى الفلسطينية والمصرية والسعودية لما أعتبر محاولة تغيير تكتيكي لتنويع خياراته الدبلوماسية.
لذا, لن يقدم الأردن تنازلات جديدة لكسب رضى إسرائيل من قبيل قبول مبدأ "التوطين السياسي" قبل حل القضية, أو سعيها لمحاصرة الفلسطينيين لإجبارهم على قبول شروط نتنياهو, أو ربما إقامة جدار فولاذي بين الضفتين.
لكن بإمكانه تقليد دبلوماسية إسرائيل, إيران, سورية, مصر, النابعة من تغليب مصالحه الذاتية وتنويع خياراته بدون الابتعاد عن التحالف الاستراتيجي مع أمريكا. يستطيع الأردن الانفتاح على حماس, والإمساك بالعصا من النصف وأن يستعيد بعض أوراقه في الملعب الفلسطيني.
من دون تنويع الخيارات باتجاه حماس, إيران وقطر دون المساس بالثوابت الإستراتيجية, سيكون من الصعب على الأردن فرض احترامه على إسرائيل, سائر العرب والغرب.
فأمريكا مثلا, تحاول كسب ود سورية لتسليك مصالحها المتعثرة في العراق وفلسطين ومع إيران, مع أن سلة التحالفات التي نسجتها دمشق تضم القوى الإقليمية المناوئة لسياسة واشنطن.
ثمّة تساؤل لماذا يبقى الأردن مقيدا بشعور الخجل والولاء الأعمى لواشنطن? لماذا يصر على ارتداء الحجاب باتجاه واحد داخل نادي عراة لا أحد يسأل فيه عن الآخر أو يخجل منه? لماذا لا يغير هوامش التكتيك لخدمة مصالحه سيما أن المسؤولين يصرّون ليلا نهارا على أن عمان ليست الحلقة الأضعف في معادلة الإقليم.
المشكلة أن السكوت وتقنين الحراك الدبلوماسي سيؤديان إلى مزيد من التطاول الدولي-العربي-الإسرائيلي, وسيحرمانا من قدرة المقاومة في منطقة المفاجآت. أما إسرائيل فستواصل ضرب التزاماتها تجاه معاهدة السلام, وستصر على التزام عمان بشروط نتنياهو للإبقاء على سياسة إدارة الأزمة من أجل كسب الوقت, وستطلب أن يكون السلام حارا امتدادا للحلم الذي خبا قبل 15 عاما.0