نعم لقد مللت وطفح بي الكيل ولم اعد احتمل المزيد. اليوم اسمح لنفسي بان اصرخ بملء الصوت بأنني لم اعد أريد أن أكون معلما. قبل اليوم كنت افخر بمهنتي واشعر بأنني أطول الناس قامة وأكثرهم أهمية وأقربهم إلى قلوب الخلق وخاصة النشْ الصغير منهم. أما اليوم فأنني اشعر إنني وحيد ضائع تائه وسط المجهول وان دروبي لم تعد واضحة ولا معلومة . اشعر أن الرمال تصفعني من جميع الجهات. تشعبت الدروب إمامي فاختلطت علي المسارب ولم اعد اعرف أين أسير.
فما بين مدير متعجرف وأخر جاهل وغيره ضعيف الشخصية ، اشعر أن حياتي لم تعد تعنيني وان شخصيتي يجب أن تتلون بلون جديد كل يوم وكأنني حرباء. وما بين زميل حاسد وأخر متوجس مني وثالث جعل من نفسه رقيبا على تصرفاتي لا يرحمني أصبحت اشعر إنني مراقب وملاحق وان هناك كاميرا ملصقة في ظهري. وما بين حكومة تتجاهل حقوقي وولي أمر يتطاول على كرامتي وطالب يترصدني ضاعت شخصيتي.
كل يوم تعليمات وطرق وأساليب تدريس جديدة فما يكاد ينضج فكري وتستوي أموري مع نمط تربوي حتى يقذفوني بمدرسة تربوية جديدة ويطلبون مني أن أتبنى أفكارها. مدراس ونظريات تربوية جديدة بعضها غربي وبعضها شرقي وهي نتاج فكر ناضج تم تطبيقه في بلاد مصدره واظهر نجاحا باهرا هناك ولكنه لم ينجح عندنا والسبب بسيط وهو أن هذا الفكر لا يتماشى مع ثقافتنا وأسلوب حياتنا وبالتالي فهو لا ينبع من فكرنا ولا يتبني معتقداتنا وفلسفتنا التربوية. ولكن أصحاب القرار لا يريدون للأسف أن يفهموا هذه الحقيقة البسيطة وذلك لسببين بسيطين أولهما حق الأسبقية في التغيير الذي يتباهى كل واحد منهم انه السباق إليه وثانيهما لعجزهم عن وضع منظومة تربوية تنبثق من ثقافتنا المحلية وتقوم على أساسها.
في دورات التطوير المهني والتي تهدف إلى رفع مستواي الثقافي والوصول بي إلى النضج التربوي والإدراك الكامل لخفايا مهنتي أجد نفسي مكبلا ولا يحق لي النقاش وأن علي أن أكون متلقيا طوال الوقت وأن يمشي فكري بخط مستقيم وإلا أصبحت نغما نشازا. والأدهى من ذلك أن الكثير ممن يتنطعون لتطويري يحتاجون مثلي إلى تطوير.
جربوا وما زالوا يجربون معي كل وسائل التطوير حتى اختلطت علي الأمور. فما بين كرت احمر وأخر اصفر وغيره اخضر هناك لون واحد أراه أمامي وهو اللون الأسود وكأنني أعيش في ظلام وظلام.
إنا لم اعد وريث الأنبياء ولم اعد اصدق مقولة ( من علمني حرفا كنت له عبدا ) لأنه وببساطة لم يعد بوسعي أن اصدق هذه الكذبة طويلا فقد أصبحت اسطوانة مشروخة والحقيقة إنني أصبحت عبدا لمهنتي يتحكم بي الطالب وولي أمره وأصبح العالم والجاهل يتطاول علي ويتهمني بالاستغلال بل وصل الأمر يبعضهم إلى المطالبة بحرماني من إجازتي لأنها أطول من أن أستحقها كما يقولون.
أريد أن أتحرر ولو لمرة واحدة من خوفي وأوهامي وشعوري بالأهمية الوهمية التي زرعوها داخلي بأنني الأصل وهم الفروع والحقيقة أنني لا أصل ولا فرع بل نبتة جافة عجفاء تنتظر فأس حطاب ليجتثها عن سطح الأرض وليس مهما ما سيزرعونه مكاني شوكا كن أم ورودا.
لم أعد أريد أن تكون لي نقابة لأنهم خونوني في حقي فأصبحت أخاف من حصولي عليه لأنهم أوهموني أنني غير قادر على حسن التصرف فيه وأن غيري سوف يسرق فوائده ليكبر فوقي وفوق الوطن وقد نسوا أو تناسوا أنني احرص على الوطن منهم.
ليعذرني كل أصدقائي وطلابي على كل هذا الكم من اليأس والتشاؤم الذي نبت داخلي حتى سيطر على كياني واستحوذ على نفسي فما عدت قادرا إلا على إن اصرخ بأنني لم اعد أريد أن أكون معلما بعد اليوم . أرجو المعذرة