بداية، لن أزاود على أحد في فهمي للأمن والأمان، والاستقرار والهدوء، ففي ظلها تستقيم معايش الناس، وفي ثناياها يصفو الفكر بعيدا عن التشنج والتوتر . ولكن مانراه الآن في بلدنا يهدد هذه النعمة التي لن تُعرف إلا إذا فُقدت لاسمح الله. لقد وصلنا إلى مرحلة من الانفلات لن نجني منه غير المزيد من التردي والهرولة نحو الخلف، فنصبح كريطة الخرقاء التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. انفلات حمل لواءه أحزاب ذات يمين وذات شمال، وحركات ذات أرقام وأعداد عشرية وبالكاد مئوية، ونقابات تركت المهنة لتعتلي مع غيرها مطيّة المسيرات والاعتصامات الفئوية. وهاهم أبناؤنا الطلاب ينسلون من كلّ شارع وزقاق بعد أن هجروا مقاعد درسهم وتربيتهم.
وبالعودة إلى سبب هذا كله، نجد أنّ الحكومات المتعاقبة التي فشلت فشلا ذريعا ومريبا في إدارة الملفات الوطنية كانت وراء ماآلت إليه الأوضاع. وكان الملف الاقتصادي ذو المساس المباشر مع المواطن هو أكثر الملفات سوادا وسوءا. ومن هذا الملف تحديدا تسرب الفقر ليسحق المسحوق، ويطحن الذي لاينقصه طحن؛ الفقر شجرة زقوم أفرعها عنف مجتمعي لم تنجو منه العشائر ولا الجامعات ولا الأسر، أفرعها انحراف في سلوكات أبنائنا الأخلاقية والدينية، ومن كل فرع تتشعب أغصان من هنا وهناك. وما زالت الحكومات تتقاطر واحدة بعد أخرى والأحوال من أسوأ إلى أكثر من الأسوأ، ومن إخفاق إلى آخر ألقى بكاهله على الجيش الأردني الآخر الممثل بالمعلمين ومطالبتهم بنقابة مهنية مثلهم مثل مخاليق الله من مهن أخرى، تعيد إليهم فتات ماتبقى لهم من حقوق وهيبة. وقد يطرح تساؤل هنا ربما يكون ساذجا بعض الشيء هو: أليس وجود نقابة للمعلمين أقلّ ضررا فيما لو قارناها مع هيئات خارج الوزارات نهبت البلد، واستحلت الحلّ والحرم في ليال ليلاء كالحة كوجوههم؟ ومن ثم تجري المماطلة والتسويف بحجة عرض الموضوع على لجنة تفسير الدستور. فعن أيّ دستور تتكلمون؛ اتقوا الله ولا تنطقوا الدستور على ألسنتكم، إنه دستور آخر صاغه قرعان الخصخصة وصلعانها ومقاولوها وثعالبها. إن المسافة مابين السين وسوف خطيرة جدا في ظلّ هذا التصعيد الذي هو أمام أعيننا وليس استشرافا أو توقعا، وكلما طالت المسافة أكثر ستكتشف الحكومة بأنها تأخرت خطوة أو أكثر إلى الوراء عند اتخاذ قرار ما، وهذه هي آفتنا في أنّ كثيرا من قراراتنا تتخذ متأخرة بعد أن يرتفع سقف المطالب يوما بعد يوم، والخوف كلّ الخوف أن تنفلت الأمور أكثر مما هي عليه؛ فينعدم الأمن وتسود الفوضى لاسمح الله تعالى ولا قدّر، وعندها لن نجد أصابعا ( نعظّ) عليها ندما وحسرة.
إن الأردن؛ أرضا وشعبا ونظام حكم نسيج طاهر علينا المحافظة عليه من عبث المغامرين أولا، ومن قصار النظر ثانيا، ومن هواة التسلق ومتصيدي الفرص ثالثا، وهؤلاء على الرغم من قلة عددهم إلا أنهم كنقطة حبر سوداء سقطت في بركة ماء زلال. لايقدرون أنّ الانفلات يغري أحفاد بني قريظة على الانقضاض وترجمة أضغاث أحلامهم في الوطن البديل ليكون الطامة الكبرى علينا جميعا أردنيين وفلسطينيين. فبنو قريظة يتحينون سوانح الفرص في أي دولة عربية لإضعافها وإثارة القلاقل والفتن فيها. وقد نجرّ إلى ذلك دون علم منا، وعندئذ لن تشفع لنا طيبة سرائرنا، ولا أحقية مطالبنا التي لم نختلف عليها مطلقا ولن نختلف عليها أبدا من استرداد حقوق منهوبة، وأموال مسروقة، وضياع وفلل وأراض مملوكة لأفراد وأسر توارث الخيانة في حقنا وحق أردننا؛ أرضا وشعبا ونظام حكم.