نعلم جميعاً أن مجلس النواب الأردني قد حُل، وذلك انتظاراً لتعديل القانون الانتخابي وإجراء انتخابات يبدو أنها لن ترى النور قبل أشهر طويلة، ومن ثم فإن المطالبة العاجلة من جانب البعض \"بتحويل تعليمات فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية إلى قانون منصوص عليه في الدستور\" تشكل استهتاراً بالدستور في ظل عدم وجود مجلس نيابي منعقد، أم أن حرقة البعض على الدستور ودعوتهم للالتزام به لا تكون إلا بخرقه؟ على أية حال، لا تمثل تلك المسألة مربط الفرس في حديثنا، ولنفترض أن المجلس ما يزال ملتئماً بالفعل وأنه سيمثل الغطاء التشريعي لمثل تلك الخطوة، فهل يجعل ذلك منها خطوة حكيمة أو عادلة أو ملبية لمصالح الأردن ومصالح الكثير من مواطنيه؟
قرار فك الارتباط عام 1988 تولد في ظروف خاصة فرضت نفسها، وقد تم اعتماده لأهداف تختلف تماماً عن تلك التي سعى البعض إلى استغلال القرار من أجل تحقيقها، وهذا ما يؤكده بعض أهم كبار رجالات الدولة الأردنية الذين وقفوا وراء هندسة ذلك القرار وتصميمه وإقراره، وعلى رأسهم عدنان أبو عودة، ورجائي الدجاني، ويمكن الرجوع إلى عشرات التصريحات للرجلين اللذين بح صوتهما وهما يحاولان عبثاً التعبير عن صدمتهما من الطريقة الملتوية التي حكمت تفسير القرار وتنفيذه.
كان الملك الحسين ـ رحمه الله ـ واضحاً تماماً بخصوص حدود ذلك القرار والنطاق المستهدف من إصداره، وحتى نكون أكثر دقة، لنستعد كلمات الملك بحرفيتها في الخطاب الذي ألقاه معلناً القرار: \"… على أنه ينبغي أن يُفهم وبكل وضوح، وبدون لبس أو إبهام، أن إجراءاتنا المتعلقة بالضفة الغربية إنما تتصل فقط بالأرض الفلسطينية المحتلة وأهلها، وليس بالمواطنين من أصل فلسطيني في المملكة الأردنية الهاشمية بطبيعة الحال، فلهؤلاء جميعاً كامل حقوق المواطنة وعليهم كامل التزاماتها تماماً مثل أي مواطن آخر مهما كان أصله…\"
كلمات الحسين ـ رحمه الله ـ واضحة ومباشرة ومحددة ولا تحتمل الكثير من التأويل، وهي تحتاج فعلاً إلى جهد جبار لثني عنقها وإخراجها عن دلالاتها الفعلية كما حدث بالفعل، فلا أحد يدري كيف أصبحت تلك الكلمات التي شددت كل التشديد على وجوب عدم المساس بحقوق الأردنيين من أصل فلسطيني تعني، حسب فهم البعض، وفي الممارسة العملية، ترصّد أبناء تلك الفئة عن طريق دائرة المتابعة والتفتيش ـ التي قد لا يكون مستغرباً أن يتذكر المرء عند سماع اسمها محاكم التفتيش التي نصبت لتعقب المسلمين في إسبانيا في عصور الظلام ـ والمسارعة إلى ما سمي \"تصويب أوضاعهم\"، الذي لم يعن في واقع الأمر إلا سحب الجنسية الأردنية من العديد منهم بجرة قلم، وكأن تمتعهم بتلك الجنسية كان مجرد منّة أو غلطة، وليس استحقاقاً دستورياً وقانونياً شرعياً استحقوه وعمّدوه بعرقهم ودمهم عبر سنوات طويلة من كفاحهم وسهرهم لبناء وطنهم الأردن وخدمته.
البعض مع الأسف الشديد يرى وكأن المشكلة الأهم في الأردن ليست في ومع الكيان الصهيوني وجرائمه واحتلاله للأرض العربية، بقدر ما هي في ومع الأردنيين من أصل فلسطيني، وهذا يبدو منسجماً تماماً مع المثل الشعبي الحكيم الذي لا أملّ من استحضاره إذ يقول: \"ما قدرش على الحمار تشاطر على البردعة\"، فالحمار هو \"إسرائيل\" التي لا نستطيع أن نفعل شيئاً جدياً لوقف مسلسل قذاراتها التي لا تنتهي، لذلك فإن من الأسرع والأسهل أن نستقوي على الضعفاء منا، ويمثل الأردنيون من أصل فلسطيني فيما يظهر هدفاً مثالياً لذلك، فهؤلاء لا بواكي لهم، ولا أحد سيهبّ للدفاع عنهم، فلعلنا ننجح في دفعهم إلى الهجرة، حتى وإن كان ذلك إلى الجحيم، فالمهم هو الخلاص من \"عبئهم\" ومن وجوههم الكئيبة التي تذكرنا بهزائمنا المنكرة.
لسان حال البعض يقول للأردني من أصل فلسطيني، وللفلسطينيين عموماً، كما قال بعض بني إسرائيل لموسى عليه السلام من قبل: \"إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون\"، فنحن في الأمة العربية ننظر للفلسطيني وكأنه باع وطنه أو تخلى عنه في أحسن الأحوال بمحض إرادته، ومن ثم فإننا لا نراه يستحق أن يحظى بحياة كريمة في أي مكان آخر، وينبغي أن يظل موسوماً بوسم اللجوء المهين على جبينه إلى الأبد، متأهباً للقتال في سبيل فلسطين، ولو وحيداً، في كل لحظة ـ علماً بأننا جردناه من كل سلاح ـ إلى أن يعود إلى وطنه السليب. ومنعاً لوجع الرأس وتوريطنا بما قد لا تحمد عقباه، فإن من المستحسن أن يطرد فكرة المقاومة \"العبثية\" من رأسه، فيخنع ويقنع بوضع هامشي مذل نحدده نحن له، وليس من حقه أن يتطلع إلى ما هو أبعد أو أرفع من ذلك الوضع، حتى وإن أوقد أصابعه العشرة في خدمتنا. إننا ننظر إلى الأردني من أصل فلسطيني وكأنه يتحمل وزر ما جرى لفلسطين، فترانا وكأننا نقول له ولكل إخوته الفلسطينيين في مشارق الأرض ومغاربها أن عليهم أن يتركوا كل شيء حققوه ويرجعوا إلى ديارهم التي طردوا منها ـ مع علمنا بعدم توافر الإمكانية لذلك ـ ليتشبثوا بالبقاء فيها حفاظاً على هويتها، التي لا نفعل نحن شيئاً يذكر لحمايتها، حتى وإن كان ذلك يعني وقوفهم حفاةً عراةً جياعاً عزّلاً في وجه جيش إرهابي من أعتى جيوش الأرض.
إن إصدار أي قانون الآن حول أوضاع الأردنيين من أصل فلسطيني دون أن تتضح الرؤية، ولو بالحدود الدنيا، حول ما يمكن أن تصير إليه الأمور في فلسطين، لن يشكل إلا ضربة جديدة موجعة نوجهها لمئات الألوف من الأردنيين الذين تعود أصولهم إلى فلسطين، بما يجعل من حياتهم الصعبة المقلقة أكثر صعوبة وإقلاقاً. وبدلاً من الدعوة إلى إصدار قانون يطوح بكل تاريخهم ومنجزاتهم ويلقي بهم في مهب الريح، فإن من الأولى، دستورياً وقانونياً وأخلاقياً وإنسانياً وإسلامياً وعروبياً ووطنياً، المطالبة بتفعيل جدي للدستور الأردني الذي يؤكد حقوقهم المشروعة كمواطنين أردنيين على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات مع سائر مواطنيهم أياً تكن أصولهم.
وعندما يشاء الله وتعود فلسطين وتقوم دولة فلسطينية حقيقية وحرة ومستقلة وقوية وقادرة على البقاء وعلى احتضان أولادها بعزة وكرامة ـ وهذا يبدو مستحيلاً في المدى المنظور والمتوسط والبعيد حسب ما هو متوافر من معطيات راهنة ـ فإن لكل حادثة حديث، وساعتها يمكن النقاش في البدائل والخيارات والتفضيلات الممكنة حول انتماءات أبناء البلد. أما الآن والحال هو الحال، فإن مثل تلك الدعوة إلى قوننة قرار فك الارتباط، لا تمثل إلا دعوة مؤسفة لن تضر الكيان الصهيوني بشيء، هذا إن لم تفده، ولن تنفعنا نحن في الأردن بشيء، ولن تفضي في حال تحققها على الأرجح إلا إلى توتير الأجواء، والإسهام في العبث بأمن واستقرار حياة الكثير من المواطنين الأردنيين، وتكريس حرمانهم من حقوقهم التي ضمنها لهم الدستور.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com