( دعاة على أبواب جهنم ) • الدكتور عبد الناصر محمد جابر الزيود* اللهم من أراد بنا وببلدنا خيرا فوفقه لكل خير ،ومن أراد بنا وببلدنا شرا فخذه اخذ عزيز مقتدر واجعل كيده في نحره وتدميره في تدبيره. الحمد لله ثم الحمد لله ،الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ ،الحمد الذي عَزَّ جَاهُهُ ،وجَلَّ ثناؤُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ، مَنْ توكَّلَ عليهِ كفَاهُ ،ومَنْ لجأَ إليهِ آوَاهُ ،ومَنْ سأَلَهُ أعطَاهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ وصفيُّهُ وخليلُهُ. يقول الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) صدق الله العظيم. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها. قلت:يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا،قلت:فماذا تأمرني أن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:فاعتزل تلك الفرقة كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك. إن الإخلاء والجلساء والأصدقاء وتأثر بعضهم ببعض خيرا أو شرا ويجب الحذر من جلساء وإخلاء السوء الذين يكونون سببا في الانحراف الأخلاقي والبعد عن الله عز وجل،وإن أعظم ما يعين المسلم على تحقيق التقوى والاستقامة على نهج الحق والهدى،مصاحبة الأخيار،ومصافاة الأبرار،والبعد عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار، لأن الإنسان بحكم طبعه البشري يتأثر بصفيه وجليسه،ويكتسب من أخلاق قرينه وخليله،والمرء إنما توزن أخلاقه وتعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه وجلسائه،كما قال عليه الصلاة والسلام : الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وسنتحدث في مقالنا هذا عن نوع أخر من الإخلاء والجلساء والأصدقاء لا يقل خطرا عن النوع الأول وهذا النوع يكون سببا في الانحراف العقائدي بحجة أنهم ملتزمون بالدين وبشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الإخلاء هو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هم دعاة على أبواب جهنم والعياذ بالله فمن وافقهم وانتهج نهجهم وسار على دربهم كانوا سببا في إدخاله إلى جهنم. فلتعلموا أنه من أعظم الفتن التي نعاني منها في عصرنا الحاضر فتنةُ الشبهات واختلاط الأمور والتباس الحق بالباطل وكثرة الاختلافات وتنوع الانتماءات فكل طائفة تزعم أن الحق معها وان الصواب حليفها. فلقد ظهر التلبيس والتظليل وبرزت الشبهات والتأويلات وظهر السفهاء الذين يجادلون أئمة الهدى وعلماء الفقه والدين ويتطاولون على العلماء ورثة الأنبياء ويكذّبون العلماء ويخوضون في مسائل الدين ونصوص الشريعة بأهوائهم الزائغة وشبهاتهم الفاسدة مع سوء أدبهم ورقة دينهم وصفاقة وجوههم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: لَيسَ مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ ويقول صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ تعالى لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ، حتى إِذَا لم يُبقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. فوالله إن هذا الحديث النبوي ينطبق انطباقا كاملا على زماننا هذا الذي نحن فيه ألان فأصبح الكثير من أبناء مجتمعاتنا يتصدرون للفتوى وللعلم وللتدريس والإمامة وهم ليسوا أهلا لذلك ضانين أن كل من لبس ثوبا وأطال لحيته ولبس عمامة على رأسه أصبح مؤهلا للإمامة وللتدريس والإفتاء وقيادة الناس، أو أن كل من قرأ كتابا فقهيا أو حفظ سورة من كتاب الله الكريم أصبح مؤهلا لان يحرم هذا ويبيح هذا ويعطيك جملة من الأحكام الشرعية وهو جالسٌ في جلسة واحدة يعجز مئات علماء الفقه والشريعة عن إعطائها والنطق بها. وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وقال عنهم أيضاً صلى الله عليه وسلم دعاة على أبواب جهنم،من أجابهم قذفوه فيها .أمثال هؤلاء غالوا في الدين وحملوا الإسلام ونصوص الكتاب والسنة ما لم تحمله. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلي الله علية وسلم غداة العقبة وهو علي ناقته إلتقط لي حصى ،فالتقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف، فجعل ينفضهن في كفة ويقول :أمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. والغلو في الدين أي التشدد آفة قديمة في جميع الأمم السابقة ،وقد كانت هذه الآفة الخطيرة سببا لهلاك الكثير من الأمم السابقة كما قال صلي الله عليه وسلم فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. ولنعلم انه لا يغالي في دينه ويحمل الأمور أكثر مما تحتمل إلا من ليس ذا علم واسع بل علمه قائم على السطحية دون الفهم الدقيق فأمثال هؤلاء كأشرطة التسجيل لا ينطقون إلا بما سجل فيها وعليها، آلات جامدة وجمودهم هذا سيكون سببا في هلاكهم وهلاك من اتبعهم واستطاعوا أن يسيطروا على عقله وفكره. فالأحاديث التي حذرت من الغلو ونهت عنه كثيرة وكثيرة جدا، منها قوله صلي الله علية وسلم : هلك المتنطعون قالها ثلاثا. قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: المتنطعون: أي المغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله علية وسلم يسألون عن عبادة النبي صلي الله علية وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا : أين نحن من النبي صلي الله علية وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً وقال الأخر: وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر وقال الأخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلي الله علية وسلم إليهم فقال :أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر،وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء،فمن رغب عن سنتي فليس منى. ومن مظاهر الغلو في هذا العصر أيضا، الطعن في المجتمع على العموم واتهام الجميع بالإفساد والبعد عن الدين وجادة الصواب، وكأن عقائد الناس باطلة إلا عقائدهم هم هي العقائد الصحيحة،معتقدين أنهم هم فقط أهل الإسلام في هذا العالم ولا يشابههم احد في التقوى والورع والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله وبناء على اعتقادهم هذا فإنهم يرفضون إجماع الأمة والمجتمع، ويطعنون في أئمة الدين والانتقاص من حق العلماء والفقهاء. فتشددوا في كل شي،علما أن شريعتنا الغراء مبنية علي التيسير والتخفيف ورفع الحرج . قال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).فالواحد من هؤلاء يرى ما يتبناه هو أو من اتخذه شيخا له من أمور اجتهادية بمنزلة وحي السماء، وكل مخالف لها هالك أو ضال أو زائغ أو مبتدع أو متبع لهواه، إلى غير ذلك من مظاهر الغلو التي كانت سببا في نفور الناس من التدين وأهله. ولتعلموا إخوتي أن أمثال هؤلاء ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا نتيجة عدة أسباب منها قله التفقه في الدين فتجروأ علي إصدار الأحكام والفتاوى من خلال نظرتهم غير المتعمقة في بعض الآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية دون علم ببقية النصوص المتصلة ببعضها بعضا،مع أن الواجب على كل من يتصدر للفتوى والتكلم في المسائل الشرعية والفقهية أن يكون محيطا بالتأويل وأسباب النزول،والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه،والأساليب اللغوية المختلفة، فالعامل علي غير علم قد يفسد أكثر مما يصلح ، ولقد شدد الفقهاء علي التأني في الفتوى والتمهل في الحكم وتسيير جموع الناس بما يؤدي لدرء فتن المجتمع لا لتأجيجها وإثارتها ،فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو ، لو عرضت عليه مسألة يجمع لها أهل بدر لاستشارتهم بها. فليتقى الله أقوام في هذا العصر يتجرءون علي الفتوى وتحريك جموع الناس لتحقيق مصالحهم الشخصية وأجنداتهم الخاصة ويحرضون الناس على إثارة الفتن والعبث بأمن العباد والبلاد تحت اسم وراية الإسلام والإصلاح وغير ذلك كثير مما يقومون به. ومن الأسباب أيضا التي أوصلت أمثال هؤلاء إلى ما وصلوا إليه الاستعلاء علي الغير بالعبادة فقد يتخذ بعض الناس من عبادته سببا للاستعلاء علي غيرة وينظر إلى بقية الناس نظرة فيها شيء من السخرية والتحقير وكأنه هو الوحيد الذي يحسن عبادة ربه دون بقية البشر وكأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يصلح غيره علما أن الكثير من هؤلاء والذين يعتبرون أنفسهم علماء بالدين والفقه لا يحسنون الوضوء بشكل صحيح والله على ما أقول شهيد بل يحتاجون إلى من يصلحهم ويعدل سلوكهم. ومن الأسباب أيضاً تعصبهم لأرائهم ولو كانت خاطئة وهذا التعصب إذا دل على شي إنما يدل على جهلهم وقلة علمهم ، ورحم الله الإمام الشافعي عندما قال ناقشت الجاهل فغلبني بجهله وناقشت العالم فغلبته بعلمي. ومن الأسباب أيضاً تعصبهم للذين اتخذوا منهم مشايخ وأساتذة لهم يعلمونهم أو بمعنى أخر هم يقومون بتلقينهم أو تحفظيهم ما يريدون تحفيظا حتى جعلوا من بعض شبابنا آلات يسجل عليها تسجيلا آلياً فقط لا غير لا يفلحون إلا بتقليد ما يشاهدونه عند الغير تقليداُ جاهلاُ أعمى دون تعليمهم أساليب الحوار والمناقشة والفكر الصحيح القائم على تقبل جميع الآراء واخذ الصحيح منها. فمن الواجب أن يتذكر هؤلاء وأمثالهم يوماً تكع فيه الرجال ،وتشهد فيه الجوارح والأوصال،ويحصل يومئذ ما في الصدور كما يبعثر ما في القبور،وهناك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون. فهم جهلاء قصر في باب العلم باعهم، وقل فيه نظرهم وإطلاعهم ،يخوضون في نوازلَ عامة وقضايا حاسمة وهامة بلا علم ولا روية ،يخبطون خَبْط عشواء، ويأتون بما يضاد الشريعة الغراء، ويقولون باسم الإسلام ما الإسلام منه براء. إنَّ شَريعةَ الإسلامِ كُلَّهَا يُسْرٌ وَسَمَاحَةٌ فِي العباداتِ والمُعاملاتِ والتعامل مع الغير مهما كان هذا الغير ، فقدَ أمرَ رَسُولُ اللهِ بالتيسيرِ في كل شي، واعلمُوا أنَّ مَا يَصْدُرُ مِنَ البعضِ مِنْ تشَدُّدٍ وتزمُّتٍ فِي الدينِ إنَّمَا سببُهُ قِلَّةُ الفِقْهِ فِي الدِّينِ والجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَقَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ :إِنَّ الدِّينَ يُسْر ،وَلَنْ يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقارِبُوا وَأَبْشِروا. فاحذروا كل الحذر على أنفسكم وأبنائكم من تأثير أمثال هؤلاء فيكم فيكونون سببا في هلاككم وهلاك بلادكم وانتم لا تشعرون فهم كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاة لكنهم دعاة من نوع أخر هم دعاة على أبواب جهنم . ولنعلم أن للشريعة الإسلامية وللبلاد والعباد حرمةٌ عظيمة لا يجوز انتهاكها وحمى مصان لا يجوز التعدي عليه،ولها أحكام لا يجوز تغييرها ولا تبديلها ،وإن من التعدي على حرمة الشريعة وأحكامها نشرَ فتاوى شاذة وأقوالٍ ساقطة تهدم الإسلام وتثلم الدين وتعبث بأمن الناس واستقرارهم،وتثير البلبلة والفتنة،وتفتن ضعاف العقول والعلم والدين، وتظهر الحق في صورة الباطل ،والباطل في صورة الحق، ومن شر المصائب والبلاء تصدُّرُ أقوامٍ للإفتاء والتدريس والإمامة وقيادة جموع الناس وتعليم الناس أمور دينهم، علما أن أمثال هؤلاء بين أهل العلم منكر أو غريب ، ليس له في مقام الفتوى حظٌّ ولا نصيب، غرهم سؤال من لا علم عنده لهم ، ومسارعة أجهل منهم إليهم. يقول بعض السلف أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره. فالعلم الشرعي علم من اجل وأخطر العلوم ولا يصح أن يخوض في بحوره إلا من هو أهل لذلك، فليس كل من تعلم وصفة طبية أصبح طبيبا، وليس كل من رسم مخططا هندسيا أصبح مهندسا وأيضا ليس كل من تعلم مسألة فقهية أصبح فقهيا. فكل أهل علم أدرى واعلم بخفايا وإسرار علمهم. فاتقوا الله واسلكوا سبيل الراشدين، وانهجوا نهج المهتدين في مؤاخاة الصالحين، ومجالسة المتقين وابتعدوا بأنفسكم عن مواطن الفتن وإثارة البلبلة فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأن يصلح نيَّاتنا وذرياتنا، ونسأل الله تعالى أن يسلمنا في ديننا وأنفسنا وأعمالنا وبلادنا. فاللهم من أراد بنا وببلدنا خيرا فوفقه لكل خير ، ومن أراد بنا وببلدنا شرا فخذه اخذ عزيز مقتدر واجعل كيده في نحره وتدميره في تدبيره.
*جامعة العلوم الإسلامية العالمية كلية الشيح نوح القضاة للشريعة والقانون www.jaberabd@yahoo.com