عاد حافي القدمين
ليس الفتى من قال كان أبي إن الفتى من قال هـا أنا ذا
تجنبت دوما الحديث عن أبي رحمه الله التزاما مني بالمبدأ الذي عبر عنه الشاعر العربي في هذا البيت الرصين، ولكنني كلما صادفت أحدا من أصدقاء والدي ولمست في تعبيرات وجهه مشاعر التأثر العميق والحنين الصادق إلى ذكريات الماضي، علمت أنه لا مناص من تناول شيء من سيرته ومسيرته في مرحلة من أدق المراحل والمنعطفات التي مرت بها الأمة في خمسينيات القرن الماضي .
فذات مرة حدثني عن قوافل اللاجئين التي تدفقت على السلط في عام ثمانية وأربعين عندما كان صبيا، وكيف أنه نظر إلى صبي في مثل سنه من صبيانهم وهو يحمل الأمتعة وينزلها على قارعة الطريق، وإذا به عاري القدمين تلتهم حرارة الأسفلت ما تبقى من نضارة جلده المتشقق في صيف أيار، فما كان من أبي إلا أن خلع حذاءه الذي لم يكن ليحصل على مثله إلا بشق الأنفس وألبسه لهذا الفتى الذي أضحى فيما بعد صديقا وجارا وزميلا ثم تنسم بعد حين أرفع المناصب الحكومية والوزارية …
إنني أستطيع في هذه الحادثة التاريخية أن أختصر مجلدات يمكن أن تكتب في العلاقة بين الشعبين التوأمين، وقد عبر عنها ببراءة الأطفال صبي ذو جبين أسمر من أشعة الشمس في بيادر كفر هودا، وإن كان بياض إبطيه الذي ورثه عن أمه الشامية الأجداد ليضرب به المثل .
لم يكن أبي يومها وهو ابن خمسة عشر عاما يملك ما يقدمه تجاه نكبة شعب سوى ما صنع، وكبير جدا بكل المقاييس ما قد قدم، وشعر براحة نفسية تخفف عن ضميره بعضا من الغليان الذي أصبحنا اليوم لا نشعر به ونحن عائدون إلى دفء بيوتنا بعد مهرجانات الدعم و مسيرات الشجب واعتصامات التنديد، أما أبي فقد عاد إلى بيته الفلاحي المتداعي والمتداخل مع مغارة في بطن الجبل في واد الأكراد، يومها .. عاد حافي القدمين .
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات