أذكر كيف كان والدي الحبيب يهمس في أذني لأسير في نهج رسمه لي، كم أنا محظوظة به! أذكره – زاده الله علماً وحكمة - وهو يتنقل في جنبات البيت يحادث إخوتي واحدا واحدا ونحن نستعد لليوم الدراسي الجديد، كنا نحضّر كتبنا ونتابع جدولنا، تتخاطفنا الضحكات والهمسات التي تفوح من أمي وأبي في أرجاء بيتنا الدافئ، أذكر تلك اللحظات مع أنها كانت بسيطة في مدتها الزمنية، عميقة في أثرها، كيف لا وقد نقش فيها الوالدان العظيمان منهجنا في الحياة، وعلاقتنا بالعلم والعلماء، أعظِم به من منهج وأعظِم بهما من والـدَين!!
ذكريات الاستعداد للمدرسة، واستقبال الفصل الدراسي الجديد، تطوف بنا نحن الآباء ونحن نشارك أبناءنا هذه الظروف فنراهم يضحكون ويقفزون طرباً بمقدم أيام النشاط والعلم، ونسمعهم يلحـّون علينا لشراء الدفاتر والأقلام، تتراقص أصواتهم الكبار منهم قبل الصغار، وهم يعدّون العدة ويهيّـئون الحقائب النظيفة المعطّرة، عشيـّة ولادة يوم دراسي جديد، تدفعهم أشواقهم لمقعد الدراسة بجانب صاحب طيـّب مجتهد، أمام معلم محب معطاء، تدفعهم تلك الأشواق للنوم باكرا حالمين منطلقين نحو المدرسة في الأحلام قبل الواقع.
فرحة العودة إلى المدرسة لها طعم أخـّاذ، لا يعرفه إلا من تذوّقه وأصاب منه، هي دعوة لنمدّ أيديَـنا إليه متذوّقين، آباءً وأبناءً ومعلّـمين؛ لنعيشَ السعادة سويّا لحظة بلحظة، وننهلَ منها العبر ونلتمسَ الدروس ونستقي النصح بصدور رحبة، لا بد من الهمس في الآذان.
اسمع معي همس والدي الذي عرف قيمة العلم وحرص على غرسه فيّ، اسمع معي همس الآباء الذين قدّروا العلم وربّـوا على ذلك أبناءهم في همسهم وجهرهم، فتارة يترنّـمون بقول شوقي "قم للمعلم وفـّهِ التبجيلا.."، وتارة يقصّون على أبنائهم قصص الأوّلين في تأدبهم مع معلميهم، ها هو الإمام الشافعي يقول: " كنت أصفحُ الورقة بين يدي شيخي " مالك" صفحاً رقيقاً لئلا يسمع وقعها"، ويعلمونهم أنه كما تدين تـُدان، فها هو" الربيع" أحد تلامذة الشافعي يقول: والله ما اجترأت أن أشربَ الماءَ والشافعيُ ينظرُ إليّ هيبة ً له.
همسُ الآباءِ ضرورة ملحـّة، وعبادة طيـّبة، تعين في ارتقاء الأمة ونهوضها.
اهمس في أذن ابنك، معلماً إياه كيف يختار أصحابه، قل له :اصحب مـَن ينهضُك حالُه، ويدُلكَ على الله مقالـُهُ.
إذا ما صحبتَ القومَ فاصحب خيارَهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
اهمس بكل عطف وحب، واحرص على ايصال النصح مغلفا بورق الهدايا الملوّن البرّاق، قل له هامسا مداعباً، شاحذا همـّتـَه
العلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي
اهمسوا في آذانهم بدفء وحنان وأوصوهم... كما أوصى الأولون: مـن لم تكن بداية محرِقة .. لم تكن له نهاية ٌ مشرقة.... اهمسوا قائلين معينين: من لم يتحمـّل ذل العلم ساعة بقي في ذلّ الجهل أبدا... أوصوهم بالتوكل بعد العزم هامسين
فكِلوا إلى الله النجاح وثابروا فالله خيرٌ كافلا ووكيلا