من المشكلات الأساسية التي نعاني منها في الوطن العربي، التي تقف جدياً أمام إحراز أي تقدم حقيقي يخرجنا مما نحن فيه من واقع متخلف بائس، الاستهتار بالعلم وعدم أخذ طروحاته ونتائجه على محمل الجد من جانب صناع القرار، الذين كثيراً ما يزهدون في النظر إلى تلك الطروحات والنتائج لأسباب مختلفة، ليس هذا مجال الخوض فيها. لكن المشكلة الأخطر تكمن في استغلال العلم من جانب دوائر صنع القرار، وتوظيفه لإضفاء صبغة علمية تمنح قراراتها المعدة مسبقاً قدراً زائفاً من الشرعية والتبرير.
مؤخراً، طلع علينا مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية بدراسة حول القانون الانتخابي، جاءت مع الأسف الشديد مخيبة للآمال، فالدراسة تنهك القارئ وتستنزف قواه حقاً في متابعة ما تقترح إحداثه من تعديلات لا تخلو من وجاهة على القانون، ولكنها تضرب الصفح تماماً عن أي إشارة إلى المشكلة الأهم والأخطر والأبرز فيه، وهي مشكلة الصوت الواحد. الدراسة المذكورة صبت كل اهتمامها على مسألة التمثيل في الدوائر الانتخابية، ومع أنها مسألة مهمة تحتاج إلى إعادة نظر جذرية لتحقيق العدالة وضمان تمثيل أفعل وأشمل لمختلف فئات المجتمع، إلا أن الجميع يعرف بأنها ليست العقدة التي ينبغي أن تنصرف الجهود إلى حلها، فالعقدة تكمن ولا شك في معادلة الصوت الواحد المختلة، التي لا تسمح للمواطن أن يمنح صوته إلا لمرشح واحد. وفي مجتمع نعرف طبيعة تركيبته وتفضيلاته وأولوياته التقليدية الأولية، فإن من الممكن التنبؤ بدرجة كبيرة من الثقة بالوجهة التي سيتجه إليها ذلك الصوت اليتيم.
ما نحتاج إليه حقاً فيما يتعلق بالمسألة الانتخابية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسألة الديمقراطية برمتها، ليس تغيير توزيع الدوائر والمقاعد الانتخابية وأعدادها ومستوى تمثيلها، على أهمية ذلك، فذلك لن يغير من قيم المواطنين واتجاهاتهم التي يتبنونها بشأن انتخاب مرشح واحد لا نعطيهم الحق أو الحرية في اختيار غيره. ما نحتاج إليه حقاً هو الدفع باتجاه تغيير محددات الثقافة السياسية المهيمنة، والأخذ بيد الناس على طريق أخذ الانتماءات السياسية والحزبية والفكرية للمرشحين بعين الاعتبار، وهو ما يبدو أمراً متعسراً تحت مظلة قانون الصوت الواحد، الذي أغفلت الدراسة الحديث عن نقطة ضعفه الرئيسة، لتظل اقتراحاتها ـ حتى وإن تم الأخذ بها ـ مجرد تمييع للمشكلة الحقيقية وتجنب لمواجهتها.
لأصدقائي الأعزاء في مركز الدراسات الإستراتيجية أقول: الدور الحقيقي لمراكز الدراسات، حتى الحكومية منها، لا ينبغي حتماً أن يتمثل في الدفاع عن السياسات الحكومية التي ثبت تهافتها، عبر السعي إلى إضفاء هالة مفتعلة من الخلفية العلمية على تلك السياسات، بل إنه يتجسد في العمل على ترشيدها وتوجيهها من أجل اتخاذ أنسب القرارات التي تحقق أكبر درجة ممكنة من المصلحة الوطنية، والمصلحة الوطنية تقتضي دون شك تأكيد كل ما من شأنه تعزيز التوجهات الديمقراطية بحق، ومن الواضح أن الأمر لا يحتاج إلى كثير من النباهة والذكاء والدراسة والأخذ والرد لإدراك أن صيغة \"الصوت الواحد\"، كانت من أبرز العوامل التي أسهمت في انكفاء توجهات الانفتاح السياسي في البلد.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com