" التجارة والإمارة "
التجارة والإمارة, مصطلح يضم في جنبيه أشد المتناقضات, وتحتوي مكوناته, لغة وفكرا, على الشيء وضده تماما.
فالتجارة هي نشاط لأفراد أو جماعات توظف قدراتها الذهنية والمادية وعلاقاتها من كل صنف من أجل تحقيق ربح ما لأطراف العملية التجارية تلك, وفي الغالب يكون الطموح الشخصي والإرادة الربحية في هذه الأنشطة هي المحركات المسوغة الوحيدة لحدود وشكل هذا النشاط, وبما أن الإنسان بطبعه أناني النزعة والفطرة ويصبو للتملك وحب الاستحواذ على الأشياء دون محدد ذاتي لهذه الديناميكية, فقد كان لا بد من محددات وضوابط اجتماعية ترسم للفرد والجماعة مدى المسموح لتحقيق الطموح, وتحدد سقف الممنوع في الكسب المشروع.
أما الإمارة فهي تكليف الفرد أو الجماعة من قبل المجتمع بإدارة شأنه العام لتحقيق السلم الأهلي والمصلحة الجماعية وضبط علاقات المجتمع هذا داخليا فيما بين مكوناته, وخارجيا مع غيره من المجتمعات. وحتى لا تختلط الأمور وتتقاطع خطوط الفصل بين العام والخاص, فقد حدد النظام الموضوع للعلاقة بين أطراف المعادلة, الريع المنتظر للعمل العام بما يسمى بالراتب أو المكافئة أو المحفزات وغير ذلك من مسميات ترتبط جميعها بحسن الأداء وجودة التقدمة للصالح العام.
وعليه, ولأن التجارة تعمل للفرد أو الجماعة الضيقة كالشركة أو المصنع أو المزرعة أو ما شابه, والإمارة يقتصر جهدها ونشاطها وحدود طموحها على المصلحة العامة وتحقيق الاطمئنان والرخاء لعامة الشعب, فقد تحذر التناقض بين مصلحتيهما واختلفت أنماط عملهما وتباعدت أهداف الواحدة عن الأخرى. ولذلك قيل, وبحق "التجارة والإمارة لا يجتمعان"
ومن هنا كان لا بد لتعليمات وتحديدات ناظمة للعلاقة بين التجارة والإمارة, وتلك الحنطة المهروسة بين حجري الرحى هاذين, ألا وهي الشعب. تطحنه التجارة لتربح دائما, وتحميه الإمارة إن صلحت أحيانا.
ولقد جاءت الشرائع السماوية والأديان لتهذيب الأنانية البشرية ولجم شهوات الإنسان وكبح جماح رغباته, تاجرا كان أو أميرا, أو ما بينهما. وعززتها ودعمتها قوانين أرضية وضعية, بعيون مراقبة للأداء والسلوك وأنياب إدارية وتنفيذية قضائية للثواب والعقاب ربما لها من صبغة الاستعجال والفورية ما لا يترك الأمور للضمير الإنساني وخوف المؤمنين من الغيبيات وحساب القبر ويوم القيامة وهما حق قادم.
ولما كان حساب الآخرة متأخر, فقد أصبح لحساب القانون الوضعي أهمية كبرى ومضاعفة, يجب على القائمين عليها أخذها بعين الاعتبار حتى تستقيم الأمور, فيطمع النزيه بتكريم ويضاعف من نزاهته, أو يخشى الفاسد من تجريم ويتوقف عن فساده. وبذلك يحصل كل ذي حق على حقه وتتساوى الناس فعليا في الحقوق والواجبات في الوطن الواحد أو في المجتمع الإنساني الأشمل على المستوى الكوني والعلاقات الدولية.
وعندما تتعطل القوانين وتقصر في الثواب والردع, أو يقتصر تطبيقها على من لا ظهر له ولا سند, وهو المواطن الضعيف المقهور والغالبية العظمى من أفراد الشعب, فتتغول القلة على الكثرة, وتصبح العامة أسماكا صغيرة تنتهي إلى فكي قرش متكرش, تسحنها قوارضه ويملئ بها أمعائه بلا رحمة ولا شفقة. فإن المحصلة الحتمية هي اختلال التوازن وفقدان الثقة بين السيد والسيد في الوطن ومن ثم ضياع الأوطان وانتهاء الحضارات. وارجعوا للتاريخ منذ آدم وحتى محمد الصغير.
وعندما تتولى أمارة البلاد والعباد طغمة من التجار وطلاب "البروفيت والأرقام السوداء" وورثة المناصب العامة والوظائف الأميرية, ولا تطالهم يد القانون وحقوقية الشعب, إلا على شكل تبديل للمناصب في أسوأ الأحوال, أو استضافة قصيرة في "سلحوب ديليفري هاوس" وعندما تعتقد هذه الطغمة أنهم يديرون ملكا خاصا بهم ومزرعة تعود ملكيتها لأهلهم وذويهم, يبيعون ويشترون ويؤجرون ويهدون ويهبون ويتصدقون ويمنعون ويحرمون ويتلاعبون بمقدراتها حسبما يشاءون وكيفما يرتئون, فإن الكارثة مؤكدة لا محالة والطوفان واقع لا راد له.
لم يقنعني علي أبو الراغب وهو يبرر تسجيل بعض وطن على مواطن واحد, حتى ولو كان سيد الوطن, حتى ولو صدقنا أبو حسن بأن الرقعة الممنوحة للملك لا تتجاوز الألفي دونم فقط بقيمة إجمالية لا تتعدى "الكم مليون" دينار, ولا أقنعني وهو يدافع عن نزاهته هو شحصيا وتطويب بيته في باريس بيعا شراء لأبنائه, من أجل تجنب ضريبة التركات بعد عمر طويل. ولم يقنعني وهو يشترط إن يخضع الجميع لقانون من أين لك هذا حتى يقبل بسؤاله عما يملك في الداخل والخارج, ولا حسد. سبحان الله, قانون مؤقت في عهده بشأن احتكار الحديد وله في تجارته باع, وقانون مؤقت للتأمينات ومضاعفة أقساطها مع تقليص خدماتها وله فيها ذراع.
لقد استقال وزير الدفاع الألماني قبل أسابيع من منصبه الحكومي والحزبي على أثر اتهامه بنسخ بعض النصوص دون الإشارة لصاحبها الأصلي في رسالته للدكتوراه.
كم من الوظائف والمناصب العامة بالله عليكم ستشغر في وطني لو طبقنا هذا المعيار فقط على ساستنا ودبلوماسيينا, وكم منهم سيطلبهم سميح بينو لو ترك الفاسدون الفاسدين لمصائرهم وكشفوا ظهورهم, وكم وزير متقاعد سيفقد تقاعده لو منعنا المجاملات على حساب الوطن.
حمى الله الأردن ورحم شيخ شهدائه وصفي التل.
جمال الدويري