الدكتور عديل الشرمان - عند وقوع جريمة بشعة التفاصيل من حيث الأسلوب والنتائج، عادة ما يتساءل البعض عن مدى مشروعية نشر أخبارها وتفاصيلها، وهويات مرتكبيها، يصاحب ذلك جدلا واسعا بين رجال القانون والإعلاميين من جهة، وبين الرأي العام المؤيد والمعارض من جهة أخرى، وهذا الجدل يعود بالدرجة الأولى إلى حالة التعاطف والاستنكار الشديدين بسبب الصدمة التي تحدثها الجريمة، وبسبب الشحن والتعبئة التي تمارسها وسائل الإعلام وعلى الأخص مواقع التواصل الاجتماعي، وتتعالى الأصوات المطالبة بإيقاع أشد العقوبات بحق مرتكبي الجريمة، كالإعدام، والقصاص، والانتقام من المجرمين وجعلهم عبرة لغيرهم.
ويبدو هذا الجدل والصراع مبررا لما للجريمة من وقع وأثر سلبي في نفوس الناس، ويبلغ هذا الصراع أشده في المجتمعات الأكثر انضباطا، والأكثر رفضا للجريمة، والتي ترتفع فيها نسبة الوازع الديني والأخلاقي كما هو الحال بالنسبة لما أطلق عليها جريمة الزرقاء وبعض الجرائم الأخرى التي سبقتها والتي فاقت ببشاعتها ظنون المواطنين وتوقعاتهم وحد تصوراتهم.
أولا، فيما يتعلق بالجريمة والضحية تثور التساؤلات التالية: هل يقوم الإعلام بتعظيم الجريمة من خلال نشر تفاصيلها، وطريقة ارتكابها، والتحذير من أساليب وقوعها، واظهار بشاعة السلوك الجرمي، وهل من مصلحة المجتمع أن يقوم الإعلام بتناقل أخبار جريمة معينة تمتاز ببشاعتها بهدف إثارة الرأي العام ضدها، أم أن من المصلحة عدم نشرها بدعوى عدم الاساءة للضحية، والضرر بمصالح التحقيق، وعدم اثارة الرعب والخوف لدى المواطنين، أو بدعوى اضعاف ثقة الناس بالأجهزة الأمنية وبالأخلاق والقيم.
ثانيا، فيما يتعلق بالجريمة والجاني تثور أسئلة أخرى: هل نشر صور المجرمين يعد تعظيما وإشهارا لهم ويجعل منهم أبطالا على أقل اعتبار في نظرهم ومن هم على شاكلتهم، أم أن النشر يسهم في تعريتهم وفضحهم كنوع من الردع والتعزير، وهل يلحق النشر ضررا بعائلاتهم وسمعتها بالنظر إلى طبيعة المجتمع الأردني.
تبدو الإجابة على هذه التساؤلات غاية في الصعوبة، وتحتاج إلى بحث علمي دقيق ومعمق، لكن ما تجدر الإشارة إليه أن القوانين تعترف للفرد بحريته في التفكير وتكوين رأيه، لكنها ليست حرية مطلقة بل محكومة بضوابط، كما أنه ليس لأحد مصادرة حق وسائل الإعلام في رصد الأحداث والأخبار ونشرها وإعلام الناس بما يجري، وهذا الحق مقيد أيضا بمراعاة المصلحة العامة، وتحقيق التوازن ما بين النشر الإعلامي وحقوق الآخرين على نحو يحقق المصالح ويدرء المفاسد، منطلقين من الحديث الشريف (لا ضرر ولا ضرار)، وأن لا يكون في النشر والتعبير عن الرأي خوضا في أعراض الناس، والحاق الأذى بهم، بذكر تفاصيل لا ضرورة لها وتتجاوز حد المصلحة العامة، وتذهب بعيدا في إذاعة أسرارهم، وصولا إلى حد القذف، والمساس بلأخلاق وخدش الحياء، واظهار العيوب التي يجرّمها القانون ويحرّمها الدين.
من الثابت أن لا جدل في ضرورة الإعلام عن الحكم بعد ثبوت الجريمة وصدور الحكم فيها، دونما وصفها وصفا تفصيليا يعيدنا إلى حالة الجدل التي تحدث عند وقوعها، وذلك ليكون نشر الحكم رادعا للآخرين، وتحذيرا للناس من الوقوع في الجريمة، وهذا هو الغرض الرئيس من نشر أخبار الجريمة.
يبدو أن الواقع الذي نحن عليه مختلف إلى حد كبير، إذ كثيرا ما يقرر القضاء عدم النشر في قضية معينة لاعتبارات كثيرة، ثم ما تلبث أن تنمحي تدريجيا من ذاكرة المواطنين، حتى إذا صدر الحكم بعد أشهر أو سنوات، قد لا يتم نشره، وفي حال تم نشره فلم يعد له صدى يذكر، وقد لا يأخذ حقه من النشر سوى مساحة صغيرة بوسيلة إعلامية وفي مكان يصعب الوصول إليه.
من وجهة نظري، يجب تقديم المصلحة العامة على أية اعتبارات أخرى في نشر قضايا الفساد التي تحتاج إلى جهود وتحقيقات وأدلة مضنية لحين ثبوتها، وغالبا ما تنتهي بالبراءة، كما في جرائم الأطفال والأحداث، والجرائم البسيطة التي لا تأخذ أبعادا مجتمعية وأمنية خطيرة فإن من باب الأولى تغليب المصلحة العامة وعدم التوسع في نشرها وذكر تفاصيلها، وكذلك الحال بالنسبة لقضايا الشرف، والتي عادة ما يتم نشرها بهدف الإثارة فحسب، من غير أن يكون هناك تغطية مهنية مدروسة وواعية وتحليلية لمثل هذه القضايا.
وفيما يتعلق بما أطلق عليها جريمة الزرقاء البشعة، باعتقادي لا يمكن لعاقل أن يسير بعكس التيار حاملا السلم بالعرض، وأن ينكر حق المجتمع في نشرها، والتحذير منها، واظهار بشاعتها، وملاحقة الجناة، ومتابعة الاجراءات القانونية بشأنها باعتبارها تمثل تهديدا كبيرا للأمن والاستقرار في المجتمع، وليس من الحكمة لجم وسائل الإعلام والرأي العام عن التعبير عن الاستياء والسخط مما وقع لكن ضمن الضوابط المشار إليها، وبشكل لا يقود إلى تعظيم المجرمين، بل إلى تقليلهم والحط من شأنهم، وتبخيسهم، وتعزيرهم، وبما يؤدي إلى تعظيم الجريمة في نفوس الناس، ولعل الصورة التي تراعي ضوابط النشر تغني عن الف خبر.