كلما نظرت إلى كتاب الرسائل للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين – دمعت عيناي لسبب واحد.
ولد الإمام الشهيد عام 1906 واستشهد على يد زبانية الملك فاروق عام 1949، أي إنه عاش ثلاثة وأربعين عاما فقط، أحيا فيها أمة كادت أن تموت بعد أن تداعت عليها الأمم، وترك عندما استشهد جماعة يتجاوز تعدادها مليون أخ مسلم وأخت مسلمة في مصر وحدها، وهي اليوم تنتشر في ثلاثة وثمانين بلدا، وتعد أكبر حركة إصلاحية في العالم.
أما نحن.. فليسأل كل واحد منا نفسه ماذا صنع للأمة في سني عمره طالت عن الثالثة والأربعين أم قصرت؟ عند عقد هذه المقارنة فقط يحق لكل منا أن تدمع عيناه بل أن يسكب الدمع مدرارا على نفسه التي جاءت إلى الدنيا وقريبا تغادرها ولم تترك خلفها أثرا يذكر.
إن جوانب العظمة عند الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله كثيرة وعديدة، ولعلي أطرق في النص التأريخي الذي سأورده أعصاها على الفهم وأصعبها على الاستيعاب، وهي علاقة الإمام الشهيد بقاتله الملك فاروق- ملك مصر والسودان في ذلك الحين- وكيف كان رحمه الله كداعية ومجاهد يعامل الملوك.
يذكر الإمام البنا في مذكراته (أنه في فترة وجود الجماعة بالإسماعيلية وشى به البعض لدى السلطات واتهموه بالسب في الذات الملكية، وثبت من التحقيق بطلان التهمة وأن البنا كان يملي على طلبته موضوعات في الثناء على الملك ويعدد مآثره، كما أنه دفع العمال يوم مرور الملك بالإسماعيلية إلى تحيته وقال لهم: "لا زم تذهبوا إلى الأرصفة وتحيوا الملك حتى يفهم الأجانب في هذا البلد أننا نحترم ملكنا ونحبه، فيزيد احترامنا عندهم" وكان ذلك دافعاً لأنّ يكتب أحد رجال البوليس تقريراً بهذه المناسبة يقترح فيه تشجيع الحكومة للجماعة وتعميم فروعها في البلاد لأن في ذلك خدمة للأمن والإصلاح).
ويذكر أيمن الظواهري في كتابه "الحصاد المر": (عندما مات الملك فؤاد رثته صحيفة الإخوان بمقال بعنوان [مات الملك يحيا الملك] كان الغرض من ورائه هو جذب عطف ولي عهده الملك الجديد - فاروق - الذي كان يتولى رعايته رجل ديني هو الشيخ المراغي - على أسلوب الجماعة ودعوته للتمسك بالتقاليد الإسلامية التي كان كما ذكر المقال - يتحلى بها والده، وكما والت الصحيفة نشر عدة مقالات تدور حول هذا الغرض تصف فيها فاروق: "بسمو النفس وعلو الهمة وأداء فرائض الله واتباع أوامره، واجتناب نواهيه".
وتحت عنوان "جلالة الفاروق المثل الأعلى لأمته" تولت جريدة الإخوان المسلمين مهمة تعبئة الرأي العام ولفت نظره إلى خطوات فاروق الدينية، فتبين كيف ملك قلوب رعيته بغيرته على الدين، وتصف استقبال الجماهير له وهو في طريقه إلى مسجد أبي العلاء لتأدية الصلاة ودعواتهم له وهتافاتهم بحياته، وتنقل بعض اللقاءات وتأتي بالقصص التي تنم على أن هناك من الأبناء الفاسدين من استقاموا وعرفوا طريق المساجد وانصرفوا إليها، والسبب أنهم اتخذوا من الملك الأسوة الحسنة.
وفي التاسع والعشرين من يوليو [1937] انتهت الوصاية على فاروق حيث بلغت سنه ثمانية عشر عاما قمرية وأصبح ملكاً رسمياً على البلاد وعقد الإخوان مؤتمرهم الرابع للاحتفال بهذه الذكرى وحشدوا عشرين ألفاً أو يزيد - تشاركهم جماعة الشبان المسلمين - من فرق الرحالة (الجوالة) ووفود شعبهم في الأقاليم وهتفوا بمبايعتهم للملك المعظم مع هتافات إسلامية، ولم يحدث مايعكر صفو المظاهرات،
وانهمر سيل الإخوان إلى ساحة قصر عابدين رافعين أعلامهم يهتفون: "الله أكبر ولله الحمد، الإخوان المسلمون يبايعون الملك المعظم، نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله".
وفي ذكرى عيد الجلوس الملكي ردد الإخوان يمين الولاء لفاروق في ميدان عابدين "نمنحك ولاءنا على كتاب الله وسنة رسوله"، ويلاحق الإخوان تحركات فاروق، فحين يتقرر عودته إلى القاهرة، يصدر مكتب الإرشاد العام أمره إلى جميع الفروع في الأقاليم، ليصطف الأعضاء بأعلامهم وجوالتهم على المحطات التي يقف فيها القطار الملكي "لأداء فروض الولاء والاحتفاء بالطلعة المحبوبة ".
وبإعادة إصدار صحيفة الإخوان في [29] أغسطس[1942]، يتصدر الغلاف صورة فاروق وفي يده المسبحة، ويذهب وفد برئاسة حسن البنا إلى قصر عابدين لرفع هذا العدد "إلى صاحب الجلالة الملك المحبوب أيده الله"، وتتكرر نفس الصورة مرة ثانية مع الاحتفال بعيد الهجرة، ومرة ثالثة وهو ملتح وكتب تحتها "القدوة الصالحة") انتهى الاقتباس من كتاب "الحصاد المر" لأيمن الظواهري.
بالتأكيد فإن الإمام البنا رحمه الله لم يكن يعامل الملوك بهذه المعاملة الكريمة اللائقة تزلفا ولا طلبا لعرض من الدنيا أو منصب أو جاه، ولا خوفا من البطش والسجن والشهادة، لأنه رحمه الله كان بإمكانه أن يصل إلى الموقع الذي يريد بقوة الإخوان الجماهيرية والعددية والاجتماعية والسياسية وحتى العسكرية، وقد آثر أن يصبر وإخوانه على البطش والسجن وأن ينال الشهادة على أن يتخلى عن مبادئه ودعوته، وإنما كان يعامل الملوك بهذه المعاملة الراقية لإيمانه واعتقاده أن في ذلك مصلحة للإسلام والوطن ولدعوة الإخوان المسلمين، فصلاح الرعية بصلاح الراعي، و "لو كان لدي دعوة مستجابة لادخرتها لإمام المسلمين" كما يقول الشافعي وابن حنبل.
بل إن الإمام حسن البنا رحمه الله كان واسع النظرة وبعيد المدى وسياسيا من الدرجة الأولى، فقام بإرسال الرسائل إلى الملوك والرؤساء العرب يدعوهم إلى تطبيق الإسلام وتحكيم شريعنه في الأرض، مؤكدا على عالمية الدعوة الإخوانية التي تقتبس نورها ومنهجها من الدعوة الإسلامية العالمية والإنسانية.
خاتمة القول بأن هذا هو نهج الإمام المجاهد الشهيد حسن البنا رحمه الله، نهج الاعتدال والوسطية، نهج التدرج والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، نهج احترام الملوك والرؤساء والحكام، ومن ينتهج طريقا غير هذه الطريق لا يحق له أن يدعي الاقتداء بالسابقين الأولين في هذه الدعوة المباركة.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات