مهما اختلف الناس بتعريفهم للفساد إلا أنهم جميعا متفقون على قبحه وبشاعته. فالفساد مأخوذ من الفعل فسد بمعنى انه لم يعد صالحا للخير او للاستعمال, أما الفاسد فهو من تعطل حب الخير لديه وهي صفة تلازمه بذاته ولذاته, وعندما يرتقى هذا الفاسد في فساده لدرجة المَعلَمة بالفساد يصبح مفسداً لغيره فيفسد المجتمع الذي يعيش فيه, فتمتد أذرعه لكل جوانب المجتمع ويصبح قدوة للتقليد من قبل ضعاف النفوس. وعندما يكثر الفاسدون يصبح الفساد صفة عامة بالمجتمع بسبب الفاسدين المفسدين لغيرهم, تصديقاً لقوله تعالي: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم 41). فالفساد لم يُخلق مع الأرض والسموات كالماء والهواء, إنما اقترفه الناس بأن يأكل بعضهم حق بعض, و الأسواء من ذلك أن يصل المجتمع لدرجة القبول بهذا الفساد كسلوك اجتماعي واعتباره شطار ة وفهلوة, فتصبح دار الفاسد مِحجا لكل محتاج فتكثر عبارات ( زرقلنا هالصبي معاك, وهاي عندك عاد, ودبرها يا بو فلان). من الجدير بالذكر أن الفساد بأنواعه المختلفة انما ينمو ويترعرع بفترة تراخي القوانين والتساهل الاجتماعي. لذلك لا أستغرب أن تظهر لنا أنواع جديدة للفساد في هذه الأيام التي تحاول فيه بعض القوى الاستقواء على الدولة بسبب الظروف المحيطة.
من أجل هذا فإن مكافحة الفساد لا تتم بالقوانين العادية, بل بقانون طوارىء صارم لأنه وباء اجتماعي وسياسي واقتصادي, فلا يجوز أن يخرج الفاسد بخطأ بإجراءات الضبط مثلاً , كذلك فإن استراداد الأمول جزء مهم من الحكم فهناك من يقول (كلهن كم سنة بنامهن على جنب واحد) , وكذلك العزل من الوظيفة هو أحسن رادع للفاسد ولا يكتفى باستقالته لينعم براتب تقاعدي ضخم ويغيب عن الساحة فترة ليعود فاسداً بوجه جديد يعيث فساداً بمكان آخر. كتبت مقالاً نُشر هنا في عمون بعنوان "ولماذا يستقيل وزير التربية أو غيره" قلت فيه أن الاستقالة لا تكفي عندما يرتكب الوزير خطأً ما, بل تجب محاكمته, والمحكمة تبرئه أو تدينه, فلا يجب طوي الملف باستقالة المسؤول وزيراً كان أو غيره.
كذلك يجب لفظ الفساد من قبل المجتمع وعدم تغطيته عشائريا فلا يصبح هذا الفاسد يقود الجاهات ويقعد مقاعد الزلم, ولا يجوز أن تفزع العشيرة لنصرة ابن لها ضل الطريق بحجة (يا بتحاكم الجميع يا بطلع الجميع) واذكر أنه في الثمانيات تم توجيه الاتهام لشخصية معينة ففزع اقاربه على مجلس النواب والحجة هي نفسها (ليش قرابتنا بالذات) وليس لأنه بريء. وهنا قد يقول قائل وكيف نعرف اذا كان هذا فاسدا أم لا؟ وهذا يقودنا الى النقطة القادمة.
وهنا يجب التذكير بعدم إلقاء التهم جزافا على الناس دون دليل. ففي القانون لا تنفع مقولة (بقولوا). فمن كان عنده الدليل فليتقدم به للمحكمة وليس على قنوات التلفزيون. شاهدنا قبل أيام على قناة الرؤيا رئيس الوزراء السابق دولة السيد علي ابو الراغب يدافع عن نفسه على الهواء أمام الأمة من وراء الإشاعات ويطلب شهادة براءة الذمة. وهذه التي قال عنها الأستاذ محمد الصبيحي على ذات القناة وفي مناسبة لاحقة انه هذا يعد انقلابا للهرم, فليس من المنطق أن رئيس حكومة يدافع عن نفسه لمجرد أن اسمه ذكر بإحدى المسيرات. نعم أتفق مع الأستاذ الصبيحي بذلك, فكثير ما سمعنا عن فلان وعن علان ولكن أين الدليل, فلا يجوز القاء التهم جزافاً على العباد, فالقضاء لا يسير وفق هوى الشارع.
هنا لا بد من التعريج على حديث الساعة وهو مغادرة السجين خالد شاهين للعلاج في الخارج. فالتقارير الطبية التي وقع عليها الأطباء هي الأساس الذي اعتمدته الجهات الرسمية للسماح له بالسفر, فهم المسؤولون المباشرون وعلى تواقيعهم صادق معالي وزير الصحة ومعالي وزير الداخلية وصدر الأمر بالسماح. و لغاية هذه اللحظة يبدو الموضوع طبيعياً ومهنياً. أما إذا كان فيه الفساد فسيظهر ذلك من حسابات السادة الأطباء باعتبار أن مصادر دخلهم محدودة ومن خلال التحقيق معهم, وهنا يبرز دور الجهات الأمنية بالتحقق من ذلك.
إن خير طريقة للتعرف على التضخم الفوري لحسابات المسؤولين هو إصدار قانون الكسب غير المشروع (من أين لك هذا؟) الذي ما زال حبيس أدراج السادة النواب. وقد أذيع منذ فترة أن الذين تقدموا بكشف عن ثرواتهم من السادة النواب كان ثلاثة عشر نائباً. ولا أدري عدد الذي كشفوا عن ثرواتهم من الأعيان أو معالي الوزراء. لهذا كان وجود مجلس نواب تشريعي قوي هو الطريق الأمثل للنهوض بالأردن من مستنقع الفساد هذا.
و الأهم من هذا وذاك وجود قوة تراقب أداء المجلس والحكومة وتسرّعه كلما شعرت بأنهم مقصرون.
لنقف جميعاً صفا واحداً لمكافحة هذا الوباء.