زاد الاردن الاخباري -
كتب الدكتور اسماعيل السعودي:
الحديث معك لا عنك يا أبا صايل يستدعي كل ضمائر الحضور، ويرفض كليا ضمائر الغياب التي تتسلل في حديثي رغما عني، فلا حقيقة ولا سلطة كالموت الذي يسعى بلا قدم بيننا كسارق بارع لا يستطيع أحد الإمساك به، والموت كم عرفته يا سيدي لا يعتام إلا الكرام وهو الذي يشبه بستانيا بارعا لا يقطف إلا الثمار الناضجة البهية. وأنت من كانت عليك تتكئ الحياة، قبل أن تبدأ خيانات الجسد عملها الخبيث فيك، وقبل أن تتركنا للبيد الظوامي نتحسس من ريحك فلا نجد إلا سراب لقائك، وأخبار رحيلك الموجع والموغل فينا حدّ الشجى الذي يبعث الشجى، فما كنا قبل ذلك نعرف موجعات القلب، ولا موجبات البكاء والتأسي.
في رمضان الفائت كنا نجلس جميعا في باب منزل أم عايد، حضر الجميع وغاب أبو غسان فقد كان هناك في عمان يقوم بعمله ببث الأمل والفرح في نفوس الأردنيين، وكان الأردنيون ينتظرون خروجه عليهم بطلته البهية، وحضوره المريح لهم. وكان عماد كعادته التي لا نستطيعها جميعا مشغولا بتقديم الضيافة والحفاوة والترحيب، بوجهه الخصيب، ولسانه العذب، وخلقه الجميل، وكان حديثنا في تلك الليلة يطوّف بين زحوم والكرك والطفيلة وبغداد ودمشق والقاهرة، التي تتساوى في قاموسك القومي جميعها محبة وعشقا؛ فلقد كنت مسكونا بهذا الهم القومي الكبير، فأنت من طينة هؤلاء الذين يسكنهم وجع الأمة، فيرتسم على ملامحهم شحوبا وتجاعيد وقلقا وهموما.
وكانت بغداد تظهر في حديثك حبّا، وتلمع في عينيك بشوارعها وأزقته ومناضيلها وشهدائها ووجعها النبيل، وكنت كنخيلها الذي لا تنحني إلا ذوائبه؛ لأنك الكبير الذي كبيرات مُـدوية أمجاده، وكبيرات مصائبه. كان يدلني عليك ضوء بيتك الذي يشبه نار القِرى التي تدعو ضيفها دون كلام، كعادة أهلك الطيبين من الغساسنة الكبار الذين يغشون فلا تنبح كلابهم، ولا يسألون عن السواد المقبل؛ ألم يقل ذلك حسان بن ثابت يوم خبر أجدادك وكرمهم وبياض وجوههم وشمم أنوفهم.
والحال يا أبا صايل ما تغير منذ ذلك العهد فالأحفاد منكم على عهد الأجداد ونبلهم وخلقهم الوعر لم يتغيروا ولن.
كنت يا أبا صايل شجرة ياسمين تظللنا بشموخها وحضورها البهي، قبل أن تتركنا محملين بعطرها وعبيرها، وكنا نستقي منك الحرف القومي الصافي الذي ما غيّره الدولار ولا النفط، فكنت الواقف في جفن الردى، يوم لا شكّ في الموت للواقفين، وكنت تحتاج دمع الأنبياء لتشاهد ما هو قادم من خلف تلك الذرى المحملة بالويل والخراب والطوفان الذي أطاح بكل شيء قومي جميل.
فمن يا أبا صايل سيرمم كسر العروبة المتسع، ومن سيمسد على جراحات الأمة الطرية التي سكنت جسدك النبيل قبل أن يسكنه المرض، ومن يا أيها القومي الشريف سيخلف حضورك وكلامك فينا، في زمان عربي نبحث فيه عن كلمة الشرف في المعاجم فلا نجدها، ومن يا أيها العروبي الوجه واليد واللسان من بعدك، ستسكنه بغداد وإخوتها وتدرج دمعة من عينه كلما لاحت من بعيد حديثا في سمر، أو خبرا في تلفاز، أو خيالا في منام.
كيف ترحل هكذا وتتركنا ناقصين من بعدك، ولماذا خاننا وخانك قلبك الطيب الذي نعرف وأسلمك للغياب...
لك الرحمة وجنات عرضها السماوات والأرض، ولأهلك الطيبين خالص العزاء، ولنا جميل ما تركتنا فينا من حسّ وألق عروبي لن يبارحنا ما حيينا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.