قال لصديقه: (أنا افضلُ منك ، فأنا أحمل بكالوريوس في ....) ، فردَّ عليه صديقه مُغتاظاً: (لكنَّك تأكُلُ مِن عرَقِ أبيك ، وأنا آكُلُ من عَرَقِ جبيني ، وممَّا تَجني يدَاي ؛ أمَّا الشهادة "بِلها واشرب مَيِّتها") ...
من هُنا تبدأ الحكاية ، بعد أنْ أطرَقَ صُبحي في صمتٍ بعيدٍ ، وهو يزحفُ نحو مستقبلٍ موعودٍ ، يطولُ مَداهُ وتتباعدُ خُطاه ، ويتدثَّرُ بقميصِ اللاوجود ؛ مُستقبلٌ يَفرِدُ عليه معاناة سبعة عشر سنة منذُ أنْ ودَّع أسوار جامعته ، ويعقِدُ على شمسهِ الضَّالة عودةَ الأمل.
في كُلِّ يومٍ يقفُ صبحي مُبتهلاً في مقبرة النَّسيان ، يتناولُ وجبة الإحباط واليأس المُرَّة ، التي يتجرَّعها في كُلِّ حين ، وشهادته ذات الإطار المُذهّب معلَّقةً على خَشَبة الاعدام ، تُبادله السلامَ صباحَ مساء ؛ وقد جفَّت على باب المستقبلِ الموصود كُلُّ أمانيه ، ولم تُثمر نداءاته ولا محاولاته بأنْ يحظى بوظيفه ، وصوتُ تفكيره يعلو مزمجراً غاضباً : "إلا أمانيَّ نفسٌ كُلُّهَا حُلُمُ".
ليست مشكلةُ صبحي فحسب ، إنَّها مشكلةٌ تُؤرِّقُ كل شابٍ وفتاة ، بذلَ ما بذلَ من كفاحٍ ومواظبةٍ وجهد لأجلِ الشَّهادة ، وشقَّ أهله على أنفسهم ، وتحمَّلوا ضغوطات الحياة ومعاناتها ، وصَبَروا أيُّما صبر ، في سبيل تعليم أبنائهم تعليماً جامعياً يليق بهم ، ويُحقق لهم جزءاً من تطلُّعاتهم ، التي تفتحُ أمامهم أبواب الحياة ومشوار المضي فيها ؛ لكن كانت الخيبةُ حليفة هؤلاء الأبناء ، فقد وجدوا حالهم في كفَّةِ ديوان الخدمة المدنية ، يُعيدون السِّباق على التعيين من جديد ، ما بين اختبارٍ واختبارٍ تنافسي ودور في التعيين ، التي ما هي إلا تعقيداتٍ تُبرر لعدم التعيين ، تزيدُ على طالب الوظيفة السأم ، وتحطمُ آماله.
لقد عجزت كافة الحكومات المتعاقبة عجزاً بائناً ، وفشلت فشلاً ذريعاً في وضع خططٍ استراتيجية وبرامج وطنية طويلة المَدى لمعالجة البطالة ، أو التَّخفيف منها على الأقل ، والأسباب وراء ذلك كثيرة ومتعددة ، فعلى العكس مما يريدون فإنَّ نسبة البطالة تزداد عاماً بعد عام ، حتى أنها تجاوزت حدَّها هذا العام لتقارب ألـ 24% ، نظراً لظروف جائحة "كورونا" ، التي اوجبت وقف التعيينات ؛ وبعيداً عن اللغة المقعَّرة التي يتحدث بها المسؤولون ، فإنَّ المواطنَ لا يريد أن يدور معكم في رحلةٍ ترفيهيَّة في بحر المصطلحات والفرضيَّات ، ولا أن يتصيَّفَ على شواطيء الكلام المُنمَّق المعسول ، حتى صارت عبارةُ "قلة الامكانات وتردِّي الوضع الاقتصادي" شمَّاعةً تُعلِّقون عليها مصائر أبناء وشباب الوطن ؛ إنما يريدُ أن تكون الصَّراحة عنوانكم حتى يفهم ماذا قدَّمتم لمعالجة ظاهرة البطالة ؛ فلا ذنبَ لأبنائنا المتعطلين في كافة التخصصات الطبية والعلمية والتعليمية والانسانية وغيرها ، إلا أنهم درسوا ليخدموا وطنهم ومجتمعهم ويساهموا في صناعة الحياة ؛ فهل يكون جزاءهم الحرمان من حق الوظيفة لسنواتٍ طوال؟! وهل يُتركوا للتَّوسلُ والاستجداء لينالوا حقَّهم؟! وهل يُعقلُ أنْ تشتعلَ رؤوسهم شيباً ، وتمتلئ صدورهم كدَراً ، وهم لا زالوا يتلقَّونَ مصروفهم اليومي من أهاليهم؟!
أيُّها الأعزاء ، يا مَنْ تُسايرون الحكومات ، وتمشونَ على هواها ، وتلبسون لباسها ، وتنتقلون بالنَّاس من برنامج إلى برنامج ، وتبيعوننا الوهم ، وتخنقوننا بهُرائكم وركاكة خططكم ، التي ما ملأت بيوتنا إلا مئات آلاف الخريجين (العاطلين) ، الذين ينتظرون وينتظرون الوظيفة والحَل ؛ فقد أتت الشِّتاءاتُ وراحَت الشِّتاءاتُ ، ولم يأتيهمُ الحَلُّ لا في غيمة الباكي ، ولا في رعـدَة المتوجِّع ؛ أيُّها الكرام ، إنَّ هؤلاء العاطلين عن العمل يندمون أنَّهم درسوا ، نعم يندمون ، ويتأسفون أنَّهم أسلموا شِراعِ حياتهم لمسؤولين لا يُحسنون قيادة المنصب بما يخدم أبناء وطنهم ، وإنَّهم يعتذرون لأنفسهم حينما يرون بأنَّ العلمَ لا يُجدي الفتى.
أُقرُّ كما غيري بأنَّ البطالة ظاهرة عالمية ، وأننا لسنا وحدنا في هذا المركب ، لكن لِمَ نقيسُ إنجازنا بمن هم خلفنا؟! ولِمَ لا نقيسه بتلك الدول التي تمكنت – رغم شُحِّ اقتصادها – من تقليل نسبة البطالة إلى حدٍّ كبير؟! لِمَ لا تكونُ خططنا واستراتيجياتنا في ذلك على المدى الأبعد؟! ولِمَ لا يكون هنالك مشرعٌ وطني تنموي مقنّن يقوده طاقم الحكومة ويتابعه خطوةً بخطوة؟! ولِمَ يُتركُ الأمرُ لتنطُّعِ وحذلقة بعض المسؤولين؟! يتحدَّثون عن ثقافة العيب ، ويُلقون اللوم على أبناء الوطن المتعطِّلين بفوقية - وهم عن أمرنا مُنشغلون - بقولهم: لماذا لا يشتغل هؤلاء العاطلين موظف مصنع ، جرسون في مطعم ، سائق تاكسي ، عامل باطون ، ...؟ وهذا ليس على سبيل الاستخفافِ أو السُّخرية بهذه المهن ، إنَّما لأنَّ أغلب هذه المهن تخضع لسطوة وتحكُّم القطاع الخاص ، ولا تُلبي احتياجاتهم إذا ما قيست بغلاء الأسعار والأوضاع الاقتصادية ، ولا توفِّرُ لهم الأمن الوظيفي المطلوب ، بسبب ارتباطها بمزاج المالك ، مما يعني عدم ديمومتها ، وكذلك انخفاض معدل رواتبها بشكل لا يؤِّهل إلى بناء حياة مستقرة ، وحرمانهم من العديد من الحقوق.
التَّأرجحُ بين تراجيديا الانتظار ، وكوميديا التعيين ، مُسلسلٌ مُمِلٌّ طالت حلقاته وتنوَّعت أحداثه ، ولا يزالُ يبحثُ عن نهايةٍ سارَّةٍ لأبطاله حتى يومنا هذا ، فهلْ من نهاية حاسمة لهذا الملف أو مُرضية على أقل حـد؟
باعتقادي ليسَ ذلك مستعصياً أو مستحيلاً ، إذا توفَّرت النيَّة الصادقة ، واُخذ الأمر على مَحمَل الجد ، وطبِّقت الوسائل الكفيلة بنجاحه دون خوارق أو فوارق ، ودون السَّماح للمتنفِّذين والمُستفيدين بتغليب مصالحهم الشخصية على المصلحة الوطنية ؛ وتأتي هذه الحلول المقترحة من قلب الأسباب ومن خلال ما يأتي:
أولاً: إصدار قرار من وزارة التعليم العالي بالتعاون مع المجلس الأعلى للجامعات الأردنية ، وإلزام الجامعات بتطبيقه ، وخاصةً الجامعات الخاصة ، بحيث يتضمَّن ما يأتي:
1- تقنين الطاقة الاستيعابية لكل جامعة من طلبة الثانوية العامة ، بشكلٍ يمنع العشوائية الحاصلة حالياً ، والتي لا تهدف إلا إلى جني الأرباح على حساب مستقبل جيلٍ بأكمله ، يُلقى بعد التَّخرُّج على قارعة الطَّريق.
2- إعادة النظر في معدلات القبول الجامعي المنخفضة لكثير من التخصصات ، والتي تؤدي إلى اكتظاظٍ هائلٍ في أعداد الخريجين ، مما يزيد عن حاجة السُّوق بكثير ، ويؤدي إلى زيادة التَّزاحم على أبواب التعيين لدى ديوان الخدمة المدنية.
3- وضع آلية لإجـراء إيقاف مؤقت لبعض التخصصات الجامعية التي لا يوجد لها فرصة عمل لعام أو عامين أو أكثر ، وفقاً لما يقتضي الحال ، والتركيز على التخصصات التي تُلبي حاجة سوق العمل فقط ، وذلك في كافة الجامعات الحكومية والخاصة ، ثمَّ إعادة فتحها بناءً على تعيين ما لا يقل عن 75% من قائمة الانتظار في ديوان الخدمة المدنية من كل تخصص ، وهنا لا بُدَّ من أن تُعامل كُل جامعةٍ بشكل مُستقل عن غيرها ، ولكن بتوازنٍ وانضباط.
ثانياً: إجراء هيكلة جديدة وجريئة للتقاعد للعاملين في جميع المؤسسات الحكومية في الدولة ، تقوم على إخفاض سن التقاعد لموظفي القطاع العام ليصبح (إلزامياً) بعد خدمة 25 سنة للذكور و 20 سنة الإناث كأقصى حد ، مما يقتضي بلا شك تغييراً كاملاً في سلم درجات الترفيع ومدة الانتقال من درجة إلى أخرى منعاً للضرر وفروقات الراتب ؛ فمن غير المعقول أن نجد موظفين في قطاعات كثيرة قد تجاوزت خدمتهم 30 أو 33 أو 35 عاماً ، ولا يزالون على رأس عملهم ؛ وبهذه الطريقة نفتحُ مجالاً واسعاً جداً لتعيين الآلاف من الأعداد المكدسة لدى ديوان الخدمة المدنية.
ثالثاً: إجراء دراسة موسَّعة من قبل وزارة العمل لجميع مؤسسات القطاع الخاص ، وإدماج كافة الجهات ذات العلاقة بهذه الدراسة ، ثم إصدار قرار حاسم بإلزام جميع هذه المؤسسات من شركات ومدارس ومصانع ومعامل ومحلات وأسواق تجارية وغيرها ، بتعيين ما نسبته 75% على الأقل من الكوادر الأردنية ، أو أي نسبة يرونها مناسبة ، شريطة وضع سلم جديد للرواتب وفقاً للمهن والتخصصات والدرجات العلمية ؛ على أن تتكفَّل الجهات المختصة بالمراقبة الفعلية المستمرة لضمان التطبيق والالتزام.
رابعاً: تسهيل سُبل الاستثمار المحلي والخارجي ، وتعزيز وتنمية البيئة المحفزة له ، دون معيقات إجرائية أو افتراضية ، بطريقة تُلزم مُلّاك هذا الاستثمار بالتشغيل الالزامي لـ 60% من أبناء البلد ؛ ممّا يفتح أبواب الوظائف والمهن المختلفة إلى درجة كبيرة تُسهم في خدمة أبناء الوطن ؛ لأن ما نراهُ هو استقطاب كبير للعمالة الوافدة – مع الاحترام - على حساب أبناء الوطن بسبب انخفاض الرواتب التي تُمنح لهم.
وتبقى مُجرد مُقترحات ، أكتبها بلغة المواطن البسيط ، وأضعها على طاولة الحكومة ، علَّها تشعر بمعاناة صُبحي – وكم لدينا مثلك يا صُبحي - الذي يُعتبرُ مثالاً لكلِّ شابٍّةٍ وشابٍّ أكلَ الدَّهرُ زهرة شبابه ، واستنفدَ حُلمه بحرَ عطاءِ والديه ، حتى كبَّلته قيودِ وأغلال البطالةِ ، لتُبقي عليه رهينَ المحبسين ، محبسُ الأملِ المُحال بالوظيفة ، ومحبسُ اليقين بغيابِ شمسها.
أ. عمار البوايزة