من السهل على أي منا أن يسطر قصائد المدح والثناء في رجال الأمن على الدور العظيم الذي يقومون به في الحفاظ على أمن أي وطن واستقراره والتضحيات التي يبذلونها في سبيل هذا الهدف النبيل، ولكن من الصعب جدا على أي نفس أوذيت أو عذبت أو ظلمت أو قهرت بقرار من السلطة كان رجال الأمن أدوات تنفيذه أن تقف نفس الموقف.
حتى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى إمام أهل السنة والجماعة والصامد في محنة خلق القرآن رغم العذاب والأذى الذي لحقه زمن الخليفة المعتصم، يأتيه أحد السجانين وهو يسمع الأثر الذي رواه أبو نعيم في (الحلية) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "الجلاوزة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار" - وهو حديث ضعيف – فيخشى أن يكون منهم، فيسأل الإمام أحمد: هل أنا من أعوان الظلمة؟! فيقول له الإمام أحمد رحمه الله: لا، لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيط لك ثوبك، ومن يطهو لك طعامك، ومن يساعدك في كذا وكذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.
أما سيد قطب رحمه الله فكان له شأن آخر، لقد كان في قمة إنسانية سامقة تجعلنا جميعا نستصغر أنفسنا الحقيرة أمام ذلك الجبل الأشم الذي يشمخ صمودا واستعلاء على الباطل وجبروته، ويقطر في ذات اللحظة تواضعا وشفقة ومحبة وحسرة على الضعفاء أمثالنا وأمثال سجانيه وجلاديه، الذين اعتقدوا أن رزقهم في يد سطوة الباطل، فكانوا له الأدوات، وكانوا بيده سياطا على ظهور المؤمنين، وسيوفا في صدور المظلومين، وحبالا غليظة حول أعناق الشهداء والمقهورين.
يقول الشيخ الشهيد عبد الله عزام رحمه الله: (في الفترة التي كان سيد قطب مسجوناً فيها بليمان طرة كان ينفق كل ما يأتيه ولا يدخر شيئا، وكان لكثير من نزلاء ليمان طرة في أمواله شيء معلوم، حتى من المجرمين، ومن السجانين، ولقد كان يشفق على حالة السجانين الأسرية، وضيق ذات يدهم، فيرثي لحالهم ويخفف من كربهم وضنكهم وبأسائهم، ولقد ملك مضاؤه وسخاؤه هذا قلوب عارفيه، وأصبح بكرمه الآسر هو المدير الفعلي لسجن ليمان طره، حتى كان الحلواني - مدير السجن - يقول: إن المدير الفعلي للسجن هو سيد قطب).
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في رسالته "أفراح الروح" – وهي عبارة عن خمس عشرة خاطرة مهداة إلى شقيقته "الحبيبة" كما يصفها وكانت من أواخر ما كتبه قبيل إعدامه - : (عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول وهلة!... لقد جربت ذلك.. جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور... شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيء من الود الحقيقي لهم، شيء من العناية- غير المتصنعة- باهتماماتهم وهمومهم... ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص. إن الشر ليس عميقآ في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحيانا. إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء.. فإذا أمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية.. هذه الثمرة الحلوة، إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، و على أخطائهم او على حماقاتهم كذلك.. وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون.. لقد جربت ذلك، جربته بنفسي. فلست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام!... ) انتهى الاقتباس من كلام الشهيد سيد قطب.
نعم .. لقد جرب سيد قطب هذه المعاني بنفسه تجربة عملية، مع من؟ مع سجانيه وجلاديه ومعذبيه ومع من لف حبل المشنقة حول عنقه رحمه الله، حتى إن من أصدروا الأمر بإعدامه أصدروا أمرهم الآثم بتغييب معالم جسده الطاهر، فأذابوا جثمانه بالأسيد كي لا يعرف له قبر ولا يكشف له أثر، ومساكين هم إذ لا يعلمون أن الله يعلم متقلبه ومثواه، ويجزيه ويحسن مأواه، وأن الأجيال المؤمنة كلها من بعده تلهج بذكره وفكره وسيرته وتقتفي أثره.
نعم.. لقد جرب سيد قطب هذه المعاني النبيلة وطبقها وهو في أحلك الظروف وأشدها، فهلا صنعنا كما صنع هو رحمه الله إن كنا ندعي أننا تلامذته وأتباعه والسائرون على دربه (في ظلال القرآن) ونحن نقتفي (معالم في الطريق).