أبى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يُغادر البيت الأبيض دون أن يحاول الانقلاب على الديمقراطية، فالرئيس المولع والمهوس بالسلطة سيترك بصمة في التاريخ الأميركي لا يمكن نسيانها، ولا يهمه إن ظلت اللعنات تُطارده.
يوم السادس من يناير 2021، سيظل مُختلفا عند الأميركيين، فهو اليوم الذي احتل فيه "الكابيتول"، وهذا حدث لم يقع إلا قبل 200 عام، حين سقط بأيدي الجيش البريطاني، والتاريخ يتكرر ولكن على أيدي الشعبويين الذين ينفخ ويُغذي فيهم ترامب وقود العنصرية والعنف.
ربما ستكشف الأيام القادمة إن كان اقتحام مقر السلطة التشريعي خطة مُبيتة أعدها ترامب مع أنصاره الموالين له، أم أنها ليست سوى محاولات للضغط مارسها الرئيس الأميركي في محاولة أخيرة للانقلاب على نتائج الانتخابات.
كثيرة هي الأسئلة التي فجرتها حادثة "احتلال الكابيتول"، قد يكون أهمها، هل ينجح قادة الحزب الديمقراطي بالتحالف مع بعض الجمهوريين في عزل ترامب في أيامه الأخيرة، وما هي انعكاسات ما حدث على مستقبل الحزب الجمهوري؟
وتمتد الأسئلة إلى البحث في مصير ترامب، وهل سيُفلت من العقاب بعد مقتل خمسة أشخاص في حادثة الاقتحام، وأصابع الاتهام توجه للرئيس الذي حرض على العنف؟
كثيرون شمتوا بإخفاق الرئيس ترامب ومُحاصرته، وابتهجوا أكثر حين طردته منصات التواصل الاجتماعي من عالمها وفضائها بعد أن وجهت له إنذارات متعددة، ولكن الإجراءات التي استهلها توتير وتبعها فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب بإيقاف حساباته فتحت جدلا عن حرية التعبير، والأبرز السلطة المُطلقة التي تتمتع بها منصات التواصل الاجتماعي؟
رصدُ وتتبعُ ما كان يُكتب ويُبث في واشنطن وأميركا كان يُنبئ بانفجار مجتمعيّ قابل للتصعيد بعد أن حمل العديد من المحتجين الذي اقتحموا البرلمان السلاح، فقد كتب عضو في منتدى "ذا دونالد ون": "بايدن سوف يُنصّب رئيسا، يجب أن لا ندع الشيوعيين ينتصرون حتى لوكان علينا تحويل العاصمة إلى رماد"، ورسالة أخرى نُشرت على شبكة "بارلي" مفادها "لا تخف من قتل الصحفيين بكل الوسائل"، وحتى نائب الرئيس بنس اعتبره المتمردون الموالون لترامب خائنا لأنه وافق على المصادقة على الانتخابات، ودعا متظاهرون إلى شنقه؛ مما أجبر الأمن الأميركي على إجلائه فورا من "الكابيتول" والبحث عن ملاذ آمن له.
المشهد كان متوترا بعد اقتحام البرلمان، ونقلت الصور مشاهد عن العبث وسرقة محتوياته، والتلويح بعَلَم لا يعرفه الكثير من الأميركيين، وبالعودة لصفحات التاريخ يظهر أنه عَلَم الكونفدرالية لولايات جنوبية رفضت التعديل 13 على الدستور الذي يقضي بتحرير العبيد، ودخلت في حرب أهلية استمرت ما يُقارب 6 سنوات، وذهب ضحيتها ما يُناهز المليون.
إذن العَلَم الذي رفرف في ردهات "الكابيتول" كان عَلَماً عنصريا، وهؤلاء يستحضرون بالقوة تاريخ الحرب الأهلية في أميركا، ولهذا يبدو تعليق مراسل CNN فان جونز "مصيرنا الآن مثل مصير سوريا" أشبه بكوميديا سوداء للحالة التي أطبقت على عنق العاصمة الأميركية.
باختصار ترامب اختطف أميركا أربع سنوات، واختطف الحزب الجمهوري أيضا، وكان يُريد اختطاف الديمقراطية، ويستلهم نماذج كل المُستبدين الذي لا يُطيقون فراق السلطة حتى لو "أحرقوا روما"، وقراءة ما كتبه ابن ترامب الأكبر يُلخص المشهد أكثر فأكثر، فهو يُخاطب الجمهوريين الذين لم يقاتلوا للدفاع عن استمرار ترامب بالقول "لم يعد هذا حزبهم، هذا حزب ترامب الجمهوري".
أعادتني "غزوة الكابيتول" عشر سنوات للوراء، وتذكرت البلطجية الذين انقضّوا على المتظاهرين في شوارع "الربيع العربي" لتثبيت حكم زعماء ظنوا لسنوات أنهم آلهة مُخلدون.
الطريف في كل ما حدث الشماتة العربية بالديمقراطية الأميركية، وإيحاء من ركاب السلطة أن الجينات العربية بدأت تزحف إلى واشنطن، وأن الديمقراطية الأميركية تحتضر، وليست أحسن حالا من أوضاعنا، مُتناسين أن "عبادة الأصنام" ليست مُتوارثة عندهم، وأن زمن العبيد ولّى منذ عقود طويلة في بلادهم.
قد لا تنجح رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في مسعاها لعزل ترامب وإقالته في آخر أيامه بموجب التعديل رقم (25) من الدستور، فهذا أمر صعب، وتحقيق غالبية الثُلثين في مجلس الشيوخ مهمة شاقة جدا إن لم تكن مستحيلة، ولكن العبرة من الملاحقة لترامب أن يخرج ذليلا من البيت الأبيض يُلاحقه العار، وقد تُطارده لاحقا دعاوى جنائية إن لم يُحصّن نفسه قبل رحيله عن البيت الأبيض، وما يُشاع الآن أن ترامب سيكون الرئيس الأول الذي لن يحضر تنصيب الرئيس القادم منذ 150 عاما.
وضع المشرعون الأميركيون الأوائل التعديل رقم (25) على الدستور للتعامل مع الطوارئ بعد أن اغتيل الرئيس جون كيندي، وبعد أن تبين إصابة الرئيس أيزنهاور بنوبات قلبية، ولم يدرْ بخُلدهم أن هذا القانون سيلوح باستخدامه لعزل رئيس يحث الموالين له على استخدام العنف للاحتفاظ بالسلطة.
طوال السنوات الأربعة الماضية ظل ترامب يُصّنع نظرية المؤامرة ويُغذيها، فالإعلام الكاذب يستهدفه، والمهاجرون يدمرون أميركا، والمكسيك لا بد من بناء جدار عازل للوقاية منها، وأخيرا تزوير الانتخابات وسرقتها من قبل الديمقراطيين واليسار الراديكالي لأنه الرئيس التاريخي الذي لا يتكرر، وفي كل ذلك كان ترامب يزرع الخوف من جهة، ويسعى لقطف التعاطف باعتباره الضحية.
سارع الكونغرس إلى البدء في محاولة عزل ترامب بعد رفض بنس تفعيل التعديل 25 لعزله، وجاءت منصات التواصل الاجتماعي لتطرد الرئيس الأميركي من فضائها وعالمها، فخسر معقله وقوته التي تعود أن يستخدم سلاحها ليبطش بخصومه.
ما فعله توتير وفيسبوك وإنستغرام بحظر ترامب أظهر أن قوتها لا تقل عن قوة رئيس أعظم دولة في العالم، وهو ما فتح الباب للتساؤل عمن يُراقبها ويُفرمل صلاحياتها المُطلقة بين جدران "دولها" على الفضاء الإلكتروني، وإن كانت اليوم ترد الصفعة لترامب بعد أن هاجمها وسعى لفرض أوامر تنفيذية تُقيدها، فمن يكبح نفوذها وسلطتها اللامتناهية مستقبلا؟!
أيام وتُطوى صفحة ترامب، ولو نججت إجراءات عزله فسيخسر إضافة إلى سلطة الرئاسة حرسه ومعاشه، وكل الامتيازات التي يحتفظ بها زعماء البيت الأبيض مدى الحياة، والأهم أنه برحيله وهزيمته ستتهاوى الكثير من قلاع اليمين المُتطرف الشعبوية التي ازدهرت في أوروبا والعالم، وسينزوي "الترامبيون العرب" المُهللون والمُطبلون، وقد يُصيب العطب الذي أحدثه ترامب مفاصل الحزب الجمهوري ويُكبل صعوده لسنوات طويلة إذا لم يقفز من السفينة الغارقة التي قادها.