من أفضل الطرق المجربة للنسيان، حتى وإن كان ذلك لأعمق الأشياء وأكثرها حضوراً وتجذراً في تلافيف أدمغتنا وقلوبنا وأرواحنا، الوقوف لثلاثة أيام متواصلة على الأقل تحت مياه شلال هادر منهمر، فهذا يضمن للإنسان حسب مزاعمي أن ينسى كل شيء، وربما يعود كيوم ولدته أمه صفحة خالية من كل ما خطه الزمان على كتاب وجوده من خطوط وذكريات.
هذه هي الخطوة الأولى التي على كل فلسطيني في منافي العروبة أن يفعلها ولا بد، أي أن يجد مسقطاً للمياه، ويستحسن أن يكون مسقطاً طبيعياً تتدفق مياهه بغزارة. فإن لم يجد، فربما كان بالامكان الاستعاضة عن ذلك بالوقوف تحت \"دوش\" الحمام أسبوعاً كاملاً، لكنني أخشى أن ذلك لن يشكل خياراً ممكنا للكثير من الفلسطينيين، الذين ما يزالون لظروفهم الاقتصادية الرائعة التي أمنتها لهم البلدان العربية يتحممون، وفي أيام الأعياد الرسمية والقومية فحسب، باستخدام الطاسة و\"اللجن\".
على أية حال، لنفترض أن صاحبنا الفلسطيني سيكون محظوظاً ولو لمرة واحدة في حياته، مع أنني أشك جدياً في ذلك، فيجد مثل ذلك الشلال الكفيل بمنحه نعمة النسيان، لذلك ننبهه أن عليه قبل ممارسة طقوس تبديد الذاكرة تحت دفق الشلال أن يحرق كل ما من شأنه أن يحمل إمكانية ولو بسيطة لتذكيره بفلسطين، من قريب أو بعيد، فيقذف في برميل ضخم تتأجج النيران فيه الكوفية البيضاء المرقطة، وصور الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، ورسوم حنظلة البائس، وشهادات ميلاده وميلاد أسلافة حتى الجد السابع والسبعين، ومفتاح البيت العتيق الذي طرد منه واستوطنه الغزاة الأوغاد، وثوب أمه المنسوج بورود لا يمكن إلا أن تحيل القلب إلى بيارات فلسطين وعرائشها وسهولها وجبالها، وكل كتب الشعر والقصص والحكايات والروايات التي تحامقت فتجرأت على الإشارة إلى فلسطين مباشرة أو تورية، وكل الأشرطة والاسطوانات التي تحتوي ولو على ترنيمة تعيد الفؤاد إلى أيام وأماكن فلسطينية هوت عليها قسوة الأيام وغدرها بفظاعة غير مسبوقة...
وقبل أن يشرع في ممارسة شعائر غسل روحه وشطب تاريخه، على أخينا اليائس أن يكتب ورقة تذكره بأن أول ما ينبغي أن يفعله عندما يلفظه الشلال وقد نسي حتى اسمه، ونسي من قبله النطق والكلمات، أن يتوجه إلى أقرب سفارة غربية، فيعتصم ببابها، جاثياً على قدميه، ممرغاً رأسه ووجهه بالتراب، فلعل أصحابها يتعطفون عليه، فيمنحونه جنسيتهم التي تعيد إليه إنسانيته وكرامته بلا منّ أو أذى، بعد ان بات الكرم العربي يطالبه بأن يعيش بلا إنسانية أو كرامة أو جنسية، بانتظار حدوث معجزة تمنحه جنسية فلسطينية، في زمن كلنا يعرف أنه لم يعد منذ دهور بعيدة يجود بالمعجزات.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com