عيسى محارب العجارمة - قبيل زمن كورونا كنت عادة ما ادشن صباحي الممل بمشاهدة لمع الاخبار بعد ذهاب اولادي الاحبة لمدارسهم وجامعاتهم وثكناتهم العسكرية ، لاقلب المواجع والجروح القومية بالقنوات الاخبارية لاتوقف على مضض مع الفضائية الاردنية ، لانها قناتي الوطنية وواجبي متابعتها شئت ام ابيت ، وللامانة اكون ممتنا لنشراتها الاخبارية الموضوعية وعرضها لبعض الاعمال الاردنية الاردنية القديمة الرفيعة قيمة ومضمونا واخراجا واداء ، فعلى مشارف الخمسون يبدأ الزهايمر بزحفه البطئ فيعود للماضي القه وبهائه القديم .
وتزخر الذاكرة الجمعية للمواطنين الاردنيين من شتى اصولهم ومنابتهم ، بأعمال فنية اردنية مميزة قدمها فنانون مبدعون ، اضافوا لتلك الاعمال روحانية وسمو الفن الاصيل – بكل ما تحمله الكلمة من معنى – منهم العين نبيل المشيني رحمه الله ( من عائلة مسيحية اردنية عريقة) الذي سبق وان تم تعيينه في مجلس الاعيان الاردني ممثلا للفنانين الاردنيين . فحارة ابو عواد هو اسم لمسلسل كوميدي اجتماعي انتجة التلفزيون الاردني بمنتصف حقبة الثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي .
من بطولة الفنانين والفنانات الاردنيين اذكر منهم :- نبيل المشيني (ابوعواد) ، والراحلة رشيدة الدجاني (ام عواد) ، والفنان المريض – شافاه الله – ربيع شهاب (بدور عواد )، والجميلة دائما ابدا حسناء الشاشة الاردنية ،التي قهر عبيرها خريف العمر – صاحبة الطلة البهية على قلوب الاردنيين – الفنانه المبدعة عبير عيسى (نجاح) وهي مسيحية اردنية اصيلة ، والراحل حسن ابراهيم (مرزوق) ، والمبدع موسى حجازين (سمعه) وهو من مسيحيي الكرك الشرفاء الاصلاء كغيرهم من الاردنيين الاحبة ، وخليل المشيني (ابو الخل زوج نجاح ) واخرون ، كتب بعض حلقاته فؤاد الشوملي مسيحي ايضا وكوميدي رائع جدا ، ومن اخراج روفائيل بقيلي مسيحي ايضا فلكم اقول ذاك القول :- ( يا من قتلتم ناهض حتر- رغم رفضي جملة وتفصيلا للرسم الكاريكاتوري الذي نشره – فقد قتلتم بموته غيلة وغدرا انقى ما باردنيتنا من صفاء ونقاء وتسامح ).
وهنا اوردت البعد الديني لبعض من هذه القامات الفنية الرفيعة ، توضيحا واثراء لمعلومة القارئ العربي وليس الاردني الذي يعرفهم عن كثب ، وذلك من خلال ما انشر من نتاجي – الموؤد محليا – بمواقع عربية عالمية الصبغة كموقع الحوار المتمدن عل سبيل المثال لا الحصر .
ليعرف القارئ العربي والعالمي في المهجر وامريكا اللاتينية ، وغيرها ان الاردن لا زال بالف خير فنيا وحضاريا وعلى كافة الصعد ، ولن تزيدنا حادثة اغتيال المفكر ناهض حتر الا مزيدا من الاصرار على التماسك والتلاحم والالتقاء الحضاري والوحدة الوطنية ، على غير ما يحب ويشتهي دعاة الفتنة والتكفير ورعاتهم من سفارات امبريالية وخلافها والقصة تطول.
وللاسف تخلو تشكيلة مجلس الامة الاردني الحالي – سواء نوابا او اعيانا – من اي اسم فني لممثل او مخرج ممن له علاقة بهذا القطاع الهام ، ولربما خاض المخرج المخضرم محمد يوسف العبادي ، تجربة الانتخابات البرلمانية ذات يوم، ولم تكلل تجربته بالنجاح للاسف ، وذلك في معرض بحثنا وسعينا لثقافة بديلة ، لما يسود اجوائنا المكفهرة بغيوم التكفير والارهاب .
حتى استدعى الامر على ما يبدو – لندرة الاعمال الفنية – التي تخشى مواجهة وحش الارهاب والتكفير، ان نشاهد قبل عامين قائد الجندرمة ( الدرك ) اللواء الركن حسين الحواتمة ، مرتين على الشاشة الصغيرة ( قناة رؤيا والفضائية الاردنية ) خلال اقل من اسبوع ، لتقديم وجهة نظر الاجهزة الامنية ، في آخر المستجدات على الساحة الاردنية والاقليمية ، وهو قد ابدع وامتع ، في تقديم ايجاز عسكري قوي عن وضع قوات الدرك ، ومدى جاهزيتها .
ولكن تبقى للفن رسالته الاصيلة السامية على هذه الجبهة الدامية ، ولا ندري بمن نرمي سهم التقصير ، هل هو الفن والفنان الاردني ام الحكومات الاردنية المتعاقبة ؟ ، السادرة بغيها بوأد الدراما والكوميديا الاردنية والشواهد كثيرة .
وتركها للقطاع الخاص للقيام بهذا العبء ، فتناسى بدوره هذا الخلل وقام بتسويق مسلسلات تجارية بدوية الصبغة – رغم اهميتها وروعتها وفخامة اخراجها – تخضع لسوق العرض والطلب على الفضائيات العربية خلال شهر رمضان ، دونما تطرقها من قريب او بعيد للهجمة التكفيرية الشرسة ، التي يمر بها مجتمعنا وقيمنا الاردنية الاصيلة .
ولعل الفلم الوثائقي التاريخي عن الثورة العربية الكبرى قد اصاب شيئا من النجاح – ومن قبله افلام وثائقية تتحدث عن معركة الكرامة وغيرها ، بجهد محمود لمديرية التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة الاردنية الباسلة – والذي ننشده بهذا الجانب الا اننا هنا نتحدث عن استمراية زخم هذه الاعمال التعرضية بساحة الاشتباك الفكري مع الفكر التكفيري وهنا يأتي دور الكاتب المبدع قبل دور وزارة الثقافة والهيئة الملكية للافلام والفضائية الاردنية وغيرها من الجهات ذات العلاقة .
وحتى لا نتهم بالتطبيع الثقافي المجاني مع العدو الصهيوني والاستعمار الامبريالي، فنورد مثالا لذلك على سخافة وتفاهة ما تقدمه السينما العربية الغبية ، فلم عربي بعنوان (خالتي فرنسا) بطولة عبلة كامل وآخرون وعلى ما يبدو ان المخرج والكاتب على قدر كبير من الضحالة الفكرية فلم يسمعوا بجرائم الاحتلال الفرنسي للجزائر والا ما تخيروا هذا العنوان لفلمهم الهابط سياسيا لا فنيا .
فقد قال احد النواب الفرنسيين بمعرض نقاشه للجنة بحث رسمية اطلعت على حقيقة ما وقع في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي لها :- ( اننا قد ارتكبنا في ثلاثة شهور ، من الفظائع وأعمال التنكيل ، أكثر مما نسب للاتراك خلال ثلاثمائة سنة ) / سجلات مجلس الامة الفرنسي .
أما حديث حريق الكهف الذي آوت اليه قبيلة جزائرية مع حيواناتها ، سنة 1844 ، فارة أمام الجنود الفرنسيين ، فقد صار مضرب المثل في الخسة والدناءة والوحشية ، اذ ما كان الجنود يكشفون ذلك الكهف الفسيح ، حتى وضعوا أمامه وعلى مداخله أكواما من الحطب والقش ، ثم اوقدوا فيها النيران ، واستمروا يغذون تلك النار ليلة كاملة .
فما جاء الصباح ، ودخل الجند الكهف ، حتى كانت جثث 780 من الضحايا البريئة بين رجال ونساء وأطفال ، مفككة الاوصال ممزقة الأشلاء ، تحت أقدام الثيران والحيوانات التي دفعتها غريزتها لطلب النجاة ، فداست كل شئ ، ثم لقيت حتفها مع الناس .
ومن أفظع ما شوهد داخل الكهف ، رجل اسلم الروح وهو ممسك بقرني احد الثيران وخلفه امرأته وابنه الصبي ، كأنه كان يدفع عنهما الثور الهائج من شدة اللهب ، وقد مات الجميع على ذلك الوضع .
ولما وصف احد النواب الفرنسيين هذه الاساليب بالوحشية ، اجاب رئيس الحكومة بان هذه الاعمال قد تكون وحشية لو ان الحرب كانت في اوروبا ، اما في افريقية فهذه هي الحرب بعينها .
من هنا نشأت داعش نتيجة لوحشية الاستعمار الغربي الذي يحاول اليوم بشتى السبل ان يفجر الوطن العربي بالفوضى الخلاقة ليتنصل بدوره من جرائمه التاريخية فمليون شهيد جزائري ، دنست فظائع داعش تجاه العرب والمسلمين وباقي العالم ، ذكرى تضحياتهم الجسام ، واضحى الاسلام اليوم هو الضحية الكبرى .
الموضوع يحتاج لفك اشتباك ثقافي ، مع عدو يتستر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويبهر عقول الناشئة بخطاب ايدولوجي تكفيري ارعن ، عجز العالم اجمع حتى هذه اللحظة عن فك طلاسمة ولوغاريتماته وتمائمه وحجبه ، ونحن لا زلنا كدولة نقدم خطابنا الركيك للجمهور المستهدف ، من خلال ديناصورات اعلامية هلامية، تحتل ركنا قصيا مهمشا في عقول الشباب ، ولا تكترث بما يهرفوا به على طريقة الذهان الذي اصاب القذافي قبل اغتياله .
انا لا احط من قدر قامات رفيعة كصالح القلاب وطارق مصاروة وبعض الحلقات الاذاعية تعالج بعضا من تاريخ الثورة العربية الكبرى المجيدة لمحمود الزيودي وغيرهم – ممن اجل واحترم -ولكن لا بد من البحث عن طاقات جديدة تقدم حل للمشكل الثقافي الفني الاجتماعي المعقد .
فمسلسل حارة ابو عواد يتحدث عن زمن اردني قريب بعيد ، تمت معالجة بعض اختلالته من خلال كوميديا اجتماعية جريئة ، كانت تحمل السلم بالعرض رغم وجود مقص الرقيب ، ولكن للقصة اليوم بعد اخر مختلف تماما عن حل مشكلة العنوسة ومشاكل تكديس صناديق البندورة بسوق الخضار المركزي وغيرها من القضايا التي عالجها المسلسل بابداع وتميز .
اننا اليوم بصدد مواجهة التحدي الارهابي لا التهديد – حسب مصطلح اللواء الركن حسين الحواتمة على قناة رؤيا – ذاك التحدي الارعن، للمملكة الاردنية الهاشمية والعالم اجمع ، فالتحدي مختلف عن التهديد ، ونقاط الغلق التي هي من صلب عمل قوات الدرك ، في كل اصقاع الاردن الغالي الداخلية .
بينما يترك امن الحدود للجيش العربي، وهنا لا بد للفن الاردني للنهوض برسالته عبر نقاط غلق درامية كوميدية مسرحيا وتلفزيونيا وسينمائيا لقمع ثقافة الارهاب والتكفير والاقصاء مواكبة لدور الجيش والدرك والاعلام الوطني ، هنا لابد من البحث عن الفن البديل .
في معرض السياق اعجبني فلم امريكي قديم ربما بعنوان (رونين) انتجته هوليود من بطولة روبرت دي نيرو واخرون يتحدث عن مجابهة قوية مع تهديد ارهابي للجيش الجمهوري الايرلندي حينما كان يصنف كمنظمة ارهابية ، تم تصوير مشاهده الخارجية بفرنسا ضمن اجواء احترافية مبهرة اخراجيا ، خاضت خلاله الكاميرا ملحمة عاتية لربما تفوق الف مقال جامد غير معبر مما اقول واكتب عربيا واردنيا ، فالقوم سبقونا منذ عشرات السنين ولا بد من استلهام تجاربهم الفنية السينمائية الملحمية بهذا المقام .
مع الاستعانة بخبرات كلية الفنون بجامعة اليرموك وغيرها لعلمي بقوة الطرح الاكاديمي لديها بهذا المحور الحساس هذا ان لم يتم تحويل الطلبة فيها – لا قدر الله لضروب الفن التكفيري الاقصائي – كبعض المسلسلات الطائفية عبر بعض الفضائيات الشيعية والوهابية ، وهنا لا بد من الغمز من جانب قناة اليرموك الفضائية الاردنية .
التي لربما تحاول جرنا لحرب نحن بغنى عنها الان مع العدو الصهيوني ،على شاكلة حروب حماس وحزب الله – الانتحارية – رغم ايماني بعدالة قضيتها ، ولكن البعد الاعلامي لخطابها اضحى بالغ التعقيد وخصوصا بعض المسلسلات الجهادية وتأكيدها المستمر عبر شريطها الاخباري على تسمية تنظيم داعش الارهابي- بتنظيم الدولة – وهو تعبير مضلل اعلاميا حاربتنا به حتى BBC نفسها.
انا اعتقد بهذا المقال الفني ذو البعد السياسي اكون قد ارحت ضميري ، وعبرت عن تصور بسيط ، للمشكلة الفنية الاردنية خاصة والعربية عامة ، ولكن الحل يبقى لدى اهل الحل والعقد والربط الفني الاعلامي الثقافي – والذي لا زال في طور الخداج والقصور الذهني المبدع الخلاق – بهذا البلد وهي بالقطع مشكلتهم ، فما انا الا من غزية ، ان غوت غويت وان ترشد ارشد .
وختاما ( آخ يا دسكي ) على رأي الفنان الاردني المبدع العين نبيل المشيني ابو عواد طال عمره ، الذي كان يردد هذه العبارة ومعها ايضا عبارة اخرى لربما رددها كثير من مسؤولينا الثقافيين والاعلاميين والفنيين بوأدهم لكل ما نهرف :- ( شيل غاد ) .
ولكني اقول لهم الطوفان قادم بهمتكم ، فأنتم المشكل والاشكال والمشكلة وليس لها دون الله كاشفة .