يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: كنت أكره دعوة الإخوان المسلمين، وابتعثتني الحكومة المصرية إلى أمريكا سنة 1949 من أجل دراسة المناهج – حيث كنت مفتشاً في وزارة المعارف –وهناك حدثت لي قضية شدت ناظري ولفتت انتباهي، أنني في الثالث عشر من فبراير سنة 1949 كنت نزيلا في مستشفى من المستشفيات الأمريكية فظهرت معالم الزينة والأفراح في المستشفى، فسألت أحد الممرضين: أي عيد هذا الذي تحتفلون فيه؟ قال الممرض وببساطة ودون تفكير: اليوم قتل عدو أمريكا الأكبر في الشرق، اليوم قتل حسن البنا! قال سيد : هذه الكلمة هزت السرير تحتي وجعلتني أنتبه، (لا يمكن لإنسان يكيد له العالم هذا الكيد إلا أن يكون على حق).
وكانت هذه بداية انجذاب سيد قطب رحمه الله نحو دعوة الإخوان المسلمين ثم انتسابه إليها والتزامه بها، فكان بحق ثاني أعظم قيادة فكرية تاريخية لهذه الدعوة المباركة، عبر سبعة عشر عاما أمضاها منظرا وموجها ومفكرا ومربيا لشباب الجماعة، قضى ردحا كبيرا منها في السجون إثر محنتين كبيرتين في الخمسينات والستينات انتهت بالحكم عليه بالإعدام واستشهاده على أعواد المشانق.
وكان الإمام حسن البنا -الذي استشهد في تلك الليلة بتاريخ الثاني عشر من شباط عام 1949 أمام مقر جماعة الشبان المسلمين في القاهرة برصاص البوليس السري للملك فاروق- قد اتخذ قرار اغتياله في مؤتمر "فايد" بتاريخ الحادي عشر من تشرين ثاني عام 1948 بإجماع سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لما تبين لهم على أرض الواقع ما قدمته كتائب الإخوان المسلمين المجاهدة في ميدان المعركة على أرض فلسطين، ومدى الخطر الذي تشكله هذه الجماعة ومرشدها حسن البنا على أمن "إسرائيل" –الوليد الجديد- وعلى مصالح الدول الاستعمارية الكبرى في المنطقة.
ولم يكن على عميل الاستعمار الملك فاروق سوى تنفيذ الجريمة بأن أمر أطباء المستشفى وكوادره بترك الإمام حسن البنا ينزف دون علاج لساعات حتى استشهد رحمه الله، وأمر جنوده بعدم السماح لأحد بالعزاء، فأحاطوا بيته بأعداد كبيرة مدججة بالسلاح، وكان معظم أفراد الإخوان قد أودعوا السجون، ولم يتمكن من تقديم العزاء سوى رجل وطني شريف من أقباط مصر هو مكرم عبيد الذي هدد بمسدسه من يحاول منعه من تقديم الواجب.
ويبدو أن الأمريكان وعملاءهم في كل مكان وزمان شديدو الخوف من جثامين الشهداء وجنازاتهم، فمنع جلاوزة فاروق أي إنسان من حمل جنازة الشهيد حسن البنا سوى والده العجوز، فحملها مع ثلاث نساء وصلى عليها ودفنها تحت الحراسة المسلحة المشددة، وظل القبر محاطا بالجنود والمدرعات لأيام عدة خوفا من اجتماع الناس عليه.
أما الشهيد سيد قطب تلميذ البنا الذي أكمل عنه مشواره يوم استشهاده فقد كان جثمانه مخيفا لأمريكا وعملائها، فأذابوه بماء النار الأسيد حتى تحللت معالمه واهترأت، ثم دفنوه في مكان مجهول إلى يومنا هذا، ولا ندري فربما ألقوه في البحر، أو أسقطوه من طائرة في السماء كما فعلوا مع الشهيد عمر المختار –حسب بعض الروايات- كل هذا حتى لا يجتمع الناس عليه، وفرحت أمريكا بفعلتها وهتف الأمريكان كما هتفوا يوم استشهاد أستاذه البنا.
ولكن السؤال الذي يجب على الأمريكان أن يطرحوه على أنفسهم عندما يفرحون: هل إخفاء جثامين الشهداء، ومنع مواكب الجنائز، وحظر مجالس العزاء، يمكن أن يمنع الناس من الاجتماع على هؤلاء القادة والرموز واقتفاء فكرتهم ومسيرتهم؟!
يبدو أنهم لم يقرؤوا "في ظلال القرآن" ولا "معالم في الطريق" ولم يسمعوا سيد قطب وهو يقول: "إن كلماتنا كعرائس الشمع تبقى ميتة هامدة.. حتى إذا متنا من أجلها وغذيناها بدمائنا انتفضت حية وعاشت بين الأحياء" هذا ما يجب أن يسطره التاريخ الذي يعيد نفسه .. (عندما يفرح الأمريكان).
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات