ذات ليلة ثلج قبل اثنين و عشرين عاما حطت بنا الرحال أنا و صديقي في "أبو نصير" حيث توقفت الحافلة على أبواب المدينة و لم تستطع التوغل بسبب تراكم الثلوج ، و قطعنا بقية المسافة سباحة في أمواج الثلج المتلاطمة عبر شوارعها ، وصولا إلى منزل زميلنا في الدراسة و رفيقنا في امتحان مادة "الاحتراق الداخلي للمركبات" في قسم الهندسة الميكانيكية بكلية الهندسة في الجامعة الأردنية.
و بسبب الأجواء المتجمدة و اجتماعنا الحميم قرب المدفأة تحولت جلستنا الدراسية إلى سهرة أمنيات حول كل شيء بدءا من أحلام التخرج القريب و انتهاء بالزواج و رحلة الكفاح القادمة ، و أزعم أنه في تلك السهرة الطويلة التي امتدت إلى الفجر حدد مضيفنا صاحب المنزل بوصلته نحو رفيقة الدرب التي أشرت بها عليه و كان النصيب كما تمنى و أراد ، و لربما كانت تلك الليلة بالنسبة له ليلة قدر في غير رمضان حيث تجلى صاحبنا في الأحلام و الأمنيات و لم يدر بخلده أن ما خبأه له القدر هو أفضل حتى مما تمناه.
و عندما طلع الصباح اقتنصنا الفرصة الذهبية للعودة بأعمارنا عدة سنوات إلى زمن الدراسة الابتدائية فاغتنمنا وجودنا في حي غير حينا و عوضنا كل فرصة ضائعة من طفولتنا و لم ندع من شر قنابلنا الثلجية أحدا من أولاد الحي في ذلك الصباح البارد.
و عدنا بعد ذلك إلى مضيفنا الذي اقترح علينا – لشدة كرمه – أن ننوي صيام ذلك اليوم باعتباره "غنيمة باردة" فاستجبنا لمقترحه ، و بادرته بمقترح آخر هو التجوال و السياحة في قمم جبال البلقاء و كان شديد الحب للمغامرة و المسير و ركوب المجهول ، فركبنا ثلاثتنا ما تيسر لنا و نزلنا بجوار مزرعة "خليفة" المجاورة ل"طف أوشع" و منها دلفنا إلى الطف الذي يمثل قمة القمم ، و بجوار المقام المملوكي لنبي بني إسرائيل يوشع بن نون عليه السلام الذي عبر بهم نهر الأردن إلى الأرض المقدسة وقفنا مسحورين ببهاء المنظر نحو فلسطين ، حيث امتزجت ألوان الطيف و الشمس الخجولة بقطرات الماء المتجمدة و هي تسيل من قبة المقام و تضفي على الناظرين إلى كفر هودا و الرملة و عين قمصون و الأغوار و النهر المقدس و جبال طوباس و نابلس هالة من القداسة الصوفية جعلت عرقنا يتصبب بين الثلوج ، فتوضأنا من مسيل تلك القطرات الذائبة و صلينا بجوار المقام صلاتي الظهر و العصر جمع تقديم ، و استغرب رفاقي من طول قبر ذلك النبي الكريم الذي يصل إلى عدة أمتار ، و كان كل شيء في المشهد يبعث على الذهول و السكينة.
و كان لا بد للمسيرة من أمير و كنت لاعتبارات الجغرافيا ذلك الأمير الذي لا بد من طاعته ، فتدحرجنا بين الثلج و الطين هابطين إلى كفر هودا أرض الآباء و الأجداد ، و هناك شممنا رائحة التاريخ و الذكريات و العراقة و الجذور و الأصالة و الكرامة و الإباء ، و منها درجنا إلى الرملة حيث تمتزج الألوان الساحرة لرملها ما بين الأحمر و الأبيض و الأرجواني و الأصفر المزرق و كأنها ألوان طيف في باطن الأرض ، و كم كنت سعيدا أن أطأ بقدمي و لأول مرة أرض جدي و أبي و أرضي التي أشعر بوجودها أنني إنسان له جذر راسخ لا ورقة شجر مقصوفة تتلاعب بها الرياح.
و بعد ذلك كان لنا الخيار بالعودة صعودا من حيث أتينا أو الاستمرار في الطريق الذي لا نعرف إلى أين سيقودنا ، و يبدو أن النزول مهما طال أسهل على النفس من الصعود مهما قصر ،
فاستأنفنا سيرنا نحو الغرب و مررنا بمناطق لا تصلها المركبات و كأنها على عذريتها و فطرتها منذ برأها خالقها ، لا يخالج تلاوينها سوى أقدام الرعاة و دغدغات قطعان الأغنام التي انكفأت في ذلك اليوم مختبئة هنا و هناك من زخات الثلج و المطر ، حتى مررنا ب"أبو رغيف" و هو مقام قديم لأحد الصالحين كما يقال ، و عشنا ساعات شاهدنا فيها أجمل غروب للشمس عرفناه منذ ولدنا ، و لما حان وقت الإفطار كان العكوب و الخرفيش و ما عشب في الأرض طعامنا الذي كسرنا به صيام أجمل أيامنا.
و مع المسير اقتربنا شيئا فشيئا من وادي الأردن إلى أن رأينا قناة الغور الشرقية على مرمى حجر ، و قبل أن نصلها إذا بمساحة منبسطة مد البصر عن أيماننا و شمائلنا و قد حددت بشيك قديم متهالك و لوحة أجزم أن عمرها من عمري – حيث أنني من مواليد نكسة حزيران عام سبعة و ستين- و قد كتب عليها "حقول ألغام" ، و لم يكن بد من عبورها أو العودة من حيث أتينا ، و فعلا "النزول مهما اشتد خطره أسهل على النفس من الصعود مهما كان آمنا" ، و لما كنت أميرهم أصدرت تعليماتي بالعبور و كنت أول العابرين و بحمد الله وصلنا بسلام.
و بعد العبور المجيد تراءى لنا معسكر يرفرف في سمائه علمان ، الأول هو علم الوطن و الثاني كان لا بد من الاقتراب أكثر و أكثر كي نتبين معالمه ، و يا لحسن حظنا! فقد كان علم الجامعة الأردنية ، و إذا بهذا المعسكر هو مزرعة الجامعة الأردنية التي يتدرب فيها طلبة كلية الزراعة فصلا كاملا ، و ما أجمل اللقاء مع الزملاء على غير ميعاد! "و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" ، و هناك تعشينا على ما تيسر من معلبات و بعض إنتاج المزرعة و عدنا أدراجنا راكبين حالمين إلى عمان الحبيبة ، حيث افترقنا أنا و صديقي إلى الجوفة و الأشرفية وسط عمان القديمة ، و زميلنا الثالث مضيفنا إلى أبو نصير ليحقق أحلام تلك الليلة الثلجية بعد عقدين من الزمن و يكون هو "وضاح خنفر" المدير العام لقنوات الجزيرة الفضائية.
المهندس هشام خريسات
hishamkhraisat@gmail.com