زاد الاردن الاخباري -
كتب : عريب الرنتاوي - لا أحد لديه توصيف دقيق لأحداث الأسبوع التي هزّت الاردن : انقلاب، محاولة انقلابية، مؤامرة، فتنة، مخطط فتنوي طويل الأجل…تضارب الروايات، ووجود ثغرات كبرى في كل واحدة منها، جعل المسألة برمتها أقرب إلى الأحجية، منها إلى أي شيء آخر، وزاد الطين بِلّةً، الحديث عن بعد خارجي للفتنة الداخلية، وضلوع أطراف، لم يكن اجتماعهم تحت سقف واحد، أمراً قابلاً للتصور.
لم تهدأ غبار الأحداث بعد، لكن قراءة باردة في مختلف الروايات، تسمح بتكوين صورة أقرب للدقة، بعيداً، عن الانحيازات المسبقة، والثابت الآن، أننا أمام جولة في مسار تنافسي/ صراعي، أطول وأقدم، أرادت الأطراف المنخرطة فيها، داخلية وخارجية، حسمها بالنقاط، وليس بالضربة القاضية الفنية، فلم نستشف نيّة طرف من أطرافها، الدخول في معركة “كسر عظم” مع الأفرقاء الآخرين، فكيف ذلك؟
ثلاثة أطراف دخلت على خط الأزمة: القصر والحكومة، الأمير حمزة والحلقة القريبة منه، و”الخارج” الذي ظلّ مبهما، من دون “تصريح” أو حتى “تلميح” إلى هويته:
الثابت، أن “القصر” بدا منزعجاً من أمير، كان بالأمس ولياً للعهد، وتحول اليوم إلى “رمز للمعارضة” ونقطة جذب واستقطاب، لرموزها ونشطائها…أمير نجح في مخاطبة الأردنيين بلغتهم ولهجتهم، وتبنى مواقف حراكاتهم، وعزف على أوتار أوجاعهم وأشواقهم، أمير ما فتئت نبرة صوته وملامح وجهه، تذكره بملك راحل، لم يعرفوا غيره، طوال ما يقرب من نصف قرن…أمير نجح في خلق قاعدة شعبية، أعادته مجدداً، وبقوة لافتة، إلى صدارة المجالس وصفحات التواصل الاجتماعي…أمير، فضحت بعض عباراته، إحساساً خبيئاً بـ”المظلومية” ورغبة في العودة إلى “العرش”.
هذا أمرٌ غير مسبوق في تاريخ دولةٍ تحتفل بمئويتها الأولى، أعطى دستورها “الحق” للملك وحده، في اختيار ولي عهده، من بين أبنائه أو إخوانه، وحافظت عائلته المالكة على خلافتها، خلف أبوابها الموصدة…لم يعرف الأردن من قبل، واقعة تحدى فيها أحد أفراد العائلة، الملك وتمرد على سلسلة انتقال العرش وتوارثه.
لكن القصر، أظهر منذ البدء، رغبته في “تحجيم” طموحات الأمير ولجمها، ولم يكن بوارد “تكسير عظامه”…الرواية الأولى، التي مُهِرَت بخاتم القوات المسلحة، تركت للأمير أفضلية “الجهل” بما يدور من حوله، ونسبت المؤامرة، لفريق يستفيء بظلاله، ويوظف مواقفه وتحركاته…وحتى في اللقاء بين رئيس الأركان والأمير حمزة، كان التوقف عن زيارات العشائر والكف عن “التغريد”، هما المطلبين الأساسيين، اللذين بدأ بهما اللواء يوسف الحنيطي حديثه واختتمه.
لكن حين بدا الأمير مصراً على رفض الانصياع لما أُمِرَ به، وقرر نشر فيديوهات بمواقفه على شبكة “بي بي سي”، انتقل خطاب القصر، إلى مرحلة أعلى من التصعيد، ولكن على لسان الحكومة هذه المرة، إذ نقل نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية، الأمير من دائرة “المُستَغفَلين” إلى دائرة “المتهمين والمتآمرين”، مبقياً أمامه واحداً من خيارين: الحل بالتراضي، في إطار العائلة، أو الحل بالتقاضي أمام محكمة أمن الدولة.
القصر لم ييأس من فرص “التسوية” في إطار العائلة، وهو في الأصل، لا يريد أن يذهب بالخلاف والتنازع، إلى ميادين الإعلام وساحات المحاكم…هنا جرى اللجوء إلى الأمير الحسن بن طلال، الرجل ذو الخبرة والحنكة والمعرفة، والتجربة المماثلة كذلك، فكان أن صدرت الرسالة الممهورة بتوقيع الأمير حمزة، وبدا أن الملف قد أغلق تماماً.
ربما ظنّ #الأمير_حمزة، إن إتمام هذه الجولة من الصراع على العرش، برسالة ولاء للملك وولي عهده، ستهدم كل ما بناه من رهانات، وستقطع الطريق على فرصه في المستقبل، فلجأ إلى نشر تسجيل لمحادثته مع رئيس الأركان، وكان واضحاً أن الرجل قد اختار عباراته بدقة متناهية، وأنه كان يخاطب الرأي العام الأردني من وراء حديثه مع “قائد الجيش”، وكان مصراً على تقديم نفسه، بوصفه “ابن ابيه” أو بالأحرى “وريثه”، وأنه أراد تحميل القصر، وزر ما آلت إليه أوضاع البلاد والبلاد، وأنه لن يتوقف عن الالتقاء بأبناء شعبه والإصغاء لهم…تبخر تأثير “رسالة الولاء” سريعاً، وبقيت في أذهان الأردنيين و”هاشتاغاتهم”، عبارات الأمير حمزة المدوية: أنا أردني حر، أنا ابن أبي.
ليس الأمير حمزة، بقليل الخبرة والدراية، ولا أظنه كان يخطط للدخول في معركة حسم مع القصر، فهو يعرف ما لديه، ويعرف أن ما بحوزته من أوراق، ستجعل من أي محاولة نزقة من هذا النوع، مغامرة غير محسوبة، لكنه بكل تأكيد، أراد أن يجعل من هذه “الجولة” بروفة لجولات لاحقة، تنتهي بتحوله إلى زعيم جماهيري، يتحين فرصة اندلاع أزمة جديدة في البلاد، لتقديم نفسه بديلاً إنقاذياً، للأردن والعائلة سواء بسواء، سيما إن انتقل الأردن، إلى حالة من عدم الاستقرار أو “الانتفاض الشعبي” على وقع الجائحتين، الصحية والاقتصادية، وبفعل انسداد مسار الإصلاح السياسي وتآكل هوامش الحريات.
الخلاصة، “رقصة التانغو” الأخيرة التي هزت الأردن، وحظيت باهتمام العالم، لم يكن يقصد بها، من طرفيها، الحسم بالضربة القاضية، ولكن بالنقاط، لم يكن يقصد بها “كسر عظم” الخصم، بل “شيطنة”، والمؤسف أنها جاءت في توقيت محلي صعب للغاية، جعل منها “رقصة تانغو على حافة الهاوية”.
ماذا عن الخارج، وعن أي خارج نتحدث؟
منذ بدء الأزمة، ربط القصر والحكومة، الأحداث بمؤامرة خارجية، لها امتدادات وأذرع داخلية، هدفها المس بأمن الأردن واستقراره، والأهم، ضرب مواقف الأردن من قضايا كبرى، كما جاء في المؤتمر الصحفي للحكومة…ما قيل باقتضاب على لسان الملك من قبل، وعلى ألسنة الناطقين الحكوميين من بعد، جرى تأكيده باعتقال مسؤولين أردنيين سابقين رفيعي المستوى، صادف أن كلاهما يتمتع بعلاقات وثيقة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أحدهما، باسم عوض الله، يعمل رسمياً مستشاراً له، وكلاهما يحملان الجنسية السعودية، إلى جانب الجنسية الأردنية، وسبق لهما أن شغلا الوظيفة ذاتها: ممثل شخصي للملك عبد الله الثاني لدى البلاط الملكي السعودي.
اعتقال باسم عوض الله والشريف حسن بن زيد، معطوفاً على تصريحات حكومية تشير إلى “فواتير يُراد تدفيعها للأردن بسبب مواقفه من “صفقة القرن ومشروع الضم والتطبيع الزاحف والوصاية الهاشمية على المقدسات”، كل ذلك دفع للاعتقاد بأن الرياض، هي المقصودة بـ”المؤامرة الخارجية”…أما علاقات عوض الله بالإمارات واحتفاظه باستثمارات وشركات فيها، فضلاً عن دور مزعوم للعقيد الفلسطيني المنشق محمد دحلان، زجّ بالإمارات في لائحة الأطراف الخارجية الضالعة في “المؤامرة” ومشروع “الفتنة”.
إسرائيل، لم تكن بدورها بعيدة على “سلة المتآمرين الخارجيين” هذه، فعلاقاتها مع الأردن، تنتقل من أزمة إلى أخرى، ونتنياهو لا يُضمر ودّا للملك، وبعض كتاب إسرائيل، وجهوا اتهامات مباشرة له باستهداف الأردن والعمل على المسّ بأمنه واستقراره، إلى أن جاءت حكاية الاتصال المزعوم بين رجل أعمال، يقال أنه ضابط متقاعد في الموساد الإسرائيلي، مع عائلة الأمير حمزة وعرضه تأمين طائرة خاصة لنقلها خارج البلاد، حتى تتكامل أضلاع المثلث المعروف بـ”بقايا تحالف صفقة القرن”، الذي عمل على إنشائه ووقف على رأسه، دونالد ترامب وصهره جارد كوشنير.
وزاد طين بِلّة، هذا الإصرار السعودي على استرداد باسم عوض الله، وحضور وزير خارجية المملكة الأمير فيصل بن فرحان إلى عمان، محمّلاً برسالة من العاهل السعودي، من دون أن يستقبله الملك، كما يقضي العرف الديبلوماسي، ومن دون أن تتمكن الطائرات الأربع التي رافقته، من اصطحاب مستشار محمد بن سلمان، إلى الرياض.
لا تصريح رسمياً في عمان، عن هوية الطرف الخارجي المتآمر، مع أنه ما من بيان يصدر في عمان، حول أحداث الأسبوع المنصرم، من دون اتهام لـ”الخارج” بالضلوع في “مؤامرة الداخل”، وليس متوقعاً، حتى بعد انتهاء التحقيقات في المعتقلين، أن يتم الإفراج عن هذه المعلومات، طالما أن “معيار المصلحة الوطنية” يتطلب الاحتفاظ بعلاقة طبية، في حدها الأدنى، مع الأطراف الثلاثة المرشحة لعضوية “نادي المتآمرين الخارجيين”.
إن التدقيق في سيل الاتهامات الأردنية لأطراف خارجية بالضلوع في “المؤامرة”، يسمح بالاعتقاد، بأن هذا “الخارج” لم يكن بدوره، بصدد الدخول في معركة “كسر عظم” مع النظام الأردني، لكنه بكل تأكيد، لم يكن ليمانع في استغلال أية سانحة، بحثاً عن “موطئ قدم”، على الساحة، وسعياً لتوجيه صفعة لهذا النظام، ثمناً لخلافات سابقة ومكتومة، لم تعد خافية على أحد…إسرائيل بقيادة نتنياهو، تريد ذلك، ونتنياهو لن يغفر للملك عبد الله الثاني، أنه حال بينه وبين الوصول إلى أبو ظبي، في رحلة تطبيع انتخابية كان بأمس الحاجة لها…وولي العهد السعودي، لم يظهر مذ توليه سدة الحكم في السعودية، حباً ظاهراً للأردن والملك، بل أنه لن يغفر لعمّان، أنها لم تنخرط على نطاق واسع في الحرب على اليمن، وتشديد قبضة الحصار لقطر…والإمارات التي قفزت بعلاقاتها مع إسرائيل من التطبيع إلى التحالف الاستراتيجي، تقود حراكاً سياسياً على جبهة السلام والتطبيع مع إسرائيل، وميدانياً في القدس، وعبر شخصيات إشكالية من نمط دحلان وعوض الله، لن يضيرها، إن تعززت أدوار هؤلاء على الساحة الأردنية، فتلكم “ورقة” قد تصبح ضرورية في قادمات الأيام.
ولأن الأردن، لا يستطيع الاصطدام بهذه الأطراف، أحدها أو جميعها، ولأن تدخلها كما تشير الدلالات والتسريبات لم يصل حد “التهديد المباشر”، فقد توقفت شهرزاد الأردنية عن القول المباح، واكتفت بالتلميح بدل التصريح عن هوية هذه الأطراف، ودائماً بدعوى: “معيار المصالح الوطنية العليا”
ماذا بعد؟
يحتاج الأردنيون بادئ ذي بدء، إلى معرفة ما الذي جرى خلال الأيام الفائتة، تلجيم الصحافة وتكميم الأفواه، ليس خياراً أبداً، بل زيت ساخن يُصَبُّ على نيران الأزمة، وتَرْك للأردنيين نهباً للشائعات وفرسان “المعارضة الخارجية”، وتكريس لانعدام الثقة بالدولة ومؤسساتها وإعلامها.
ويحتاج القصر والحكومة، لمعرفة أن كل ما قيل ويقال عن “مؤامرة” خارجية بأطراف داخلية، ما كان ليكون، أو ليصبح أمراً ذا مغزى، لو أن الدولة الأردنية بمؤسساتها المختلفة، نجحت في سد الشقوق والثغرات التي يتسلل منها “متآمرو الداخل والخارج”، وتوظيفها واستثمارها على نحو بدت معه الدولة عاجزة ومجردة إلا من أدواتها الأمنية وقراراتها الفوقية – العرفية.
الأردن، بحاجة لمشروع وطني شامل للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يستبطن اصلاحاً دستورياً شاملاً، يكفل فتح الأبواب على اتساعها للمشاركة، والعمل بمبدأ المواطنة المتساوية الفاعلة، والدولة المدنية الديمقراطية، والانتخابات القائمة على التعددية السياسية والبرلمان القائم على الأحزاب، والحكومات البرلمانية، كما يتطلب “دسترة” النموذج الاقتصادي – الاقتصادي الأنسب للأردن والأردنيين، فلا نبقى في دائرة التجربة والاختبار.
القصر والحكم والحكومة، بحاجة لعدم الركون إلى موجة التعاطف الإقليمي والدولي العارمة مع الأردن وأمنه واستقراره، فهذه على أهميتها، لا تعوض الحاجة لاكتساب ثقة المواطنين والتفافهم حول الدولة والعرش، سيما بعد أن تكشفت التجربة عن فشل الدولة، بمختلف مؤسساتها وأجهزتها، في “شيطنة” رجل واحد: الأمير حمزة، وهو الذي لا يملك حزباً أو برنامجاً أو أدوات، ويكتفي بملامسة مشاعر الأردنيين وأشواقهم.