تحسين التل: خطر على بالي في هذا التقرير أن أقارن بين بعض المهن التي كانت موجودة في منطقتنا العربية والإسلامية، وبعض المهن المشابهة لها في دول العالم المختلفة، مثلاً؛ مهنة الحكواتي في سوريا ومصر وفلسطين والأردن ولبنان، كان هناك رجلاً متعلماً يحسن القراءة والكتابة، يمتهن رواية القصص من الكتب والمؤلفات، والحكايات الشعبية أمام جمهور متعطش لسماع قصص البطولة التي اعتاد العرب على سماعها منذ مئات السنين، مثل قصص وروايات؛ الزير سالم، وعنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي... الخ.
السبب يعود الى عدم توفر أي نوع من أنواع التكنولوجيا الحديثة مثل الراديو، والتلفزيون، فكانت روايات القصص هي السائدة، وأحياناً يكون المبالغة في الوصف من قبل الحكواتي لإضافة عنصر الجذب والتشويق من أجل زيادة المال الممنوح للحكواتي، ولصاحب المقهى أو المكان الذي يجتمع فيه الناس.
انقرضت مهنة الحكواتي كما انقرضت مهن أخرى كانت موجودة في السبعينات من القرن الماضي، مثل: مهنة المسحراتي، حامل الطبل الذي يجوب شوارع وأزقة المدن والقرى بعد منتصف الليل؛ لإيقاظ الناس على السحور، وكانت عبارة يا نايم وحد الدايم، هي العبارة المتداولة بين المسحرين، ولم يكن يأخذ المسحر أي نقود من المنطقة التي يقوم بخدمتها إلا قبل انتهاء الشهر الفضيل بعدة أيام، فيطرق الأبواب ليذكرهم بقدوم العيد، فيقوم صاحب البيت بمنحه بعض الدنانير، أو حلويات، أو ملابس وأحذية وفق ما يتوفر.
في أوروبا؛ كان يقابل هذه المهنة التي انقرضت كما انقرضت مهنة المسحراتي؛ مهنة قارع الأبواب والشبابيك صباحاً لإيقاظ الموظفين، والعمال للذهاب الى أعمالهم، وكان يقبض أجرته منهم في نهاية كل شهر، هذه المهنة كانت منتشرة في الغرب، ولم يعد لها ذكر إلا في الأرشيف؛ للتوثيق التاريخي بعد ظهور الوسائل البديلة التي اعتمد عليها الإنسان فيما بعد.
أما مهنة المرضعة فكانت الأشهر في التاريخ العربي والإسلامي، لأنها ارتبطت بسيدنا محمد (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم)، فقد كانت المرضعات يذهبن الى مكة ويفضلن من كان أبوه حياً ليزيد من إكرامهن، أما اليتيم فكانت النساء يبتعدن عنه لأن المال الذي يدفع بدل إرضاعه لا يسد حاجة المرضعة التي تأكل بثدييها، ما عدا السيدة العظيمة حليمة السعدية التي وافقت على إرضاع سيدنا محمد عليه السلام، لأنه يتيم، فما أن غادرت به حتى وجدت بركة في شرفها، وثديها، وآل بيتها، وأغنامها، وأرضها التي كانت تعاني من الجدب.
أما أبناؤها من الرضاعة، فكانوا: بالإضافة الى سيد الخلق أجمعين؛ محمد (عليه الصلاة والسلام)، حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، سيد الشهداء، وعم النبي، وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب إبن عم الرسول (صلى الله عليه وسلم).
كانت المرضعات في أوروبا يعملن من أجل المال، وبسبب قلة النظافة بين المرضعات؛ انتشرت الأمراض بين الأطفال في العصور الوسطى، مما أدى الى توقف هذه المهنة نهائياً، وعدم السماح للمرضعات بالعمل تحت طائلة القانون والعقاب، وانقرضت هذه المهنة بعد فترة قياسية.
وهناك مهنة انتشرت في العصور الوسطى، وكانت في قصور الملوك والأمراء والنبلاء؛ ألا وهي مهنة المهرج الذي كانت وظيفته إضحاك الملك أو الأمير، وحاشيتهم، عبر إرسال القفشات، والنكت، والغناء، والتقليد، يقابلها عند العرب الأراجوز في مصر، أو الكراكوز وهو؛ المهرج الذي يرتدي الملابس الملونة المثيرة للسخرية، ويرسم الأشكال المضحكة على وجهه من أجل إمتاع الأطفال، ويفتعل المقالب بين الناس بطريقة كوميدية لاذعة أحياناً، وساخرة، أحياناً أخرى، لقد تشابهت المهنة عند العرب وعند الأجانب، مع فرق بسيط، أن المهرج مخصص للأمراء وعلية القوم، أما عند العرب فكان لعامة الناس، لكن تبقى الشخصية واحدة بشكل عام.
السينما الغربية والأمريكية بالذات استطاعت توظيف شخصية المهرج في أفلام الرعب، وهناك العديد من الأفلام المرعبة لعب فيها المهرج أدواراً بعيدة كل البعد عن دوره التقليدي، وكانت هذه الأفلام تُعد نقلة نوعية في صناعة سينما الرعب، أو أفلام الإثارة والقتل والعنف.
ولا ننسى مهنة الخاطبة، وهي المرأة الوحيدة التي كان يمكنها الدخول الى بيوت الناس لرؤية العروس، وفحصها، واكتشاف حسناتها أو عيوبها، فإن وافقت؛ تمت الخطبة، وإلا فالعروس تعتبر مرفوضة للأسباب التي تحددها الخاطبة، لذلك كانت الخاطبة مؤتمنة عند كثير جداً من العائلات.
وهناك مهنة الداية أو القابلة القانونية، فقد انتشرت بشكل كبير بين العائلات المحافظة، ونادراً ما كانت بعض العائلات ترسل الحوامل الى المستشفيات للولادة، هذه المهنة انقرضت وتحولت الى المستشفيات، وأصبح الأطباء، أو (القابلات)؛ يشرفون على ولادة المرأة الحامل داخل المستشفى.
مهن كثيرة انقرضت في العالم مثل: مبيض النحاس بعد صناعة الأواني من الألمنيوم، والبلاستيك، والستينلس ستيل، ومهنة جامع فضلات الناس المقززة، أما مهنة السقا فكانت منتشرة في مصر، والمغرب العربي، وبلاد الشام قبل تركيب شبكات المياه.
حقيقة مع التقدم العلمي الهائل، تلاشت كثير من المهن التي كان الإنسان يعتمد عليها في تسيير أمور حياته..
علينا أن ندين بالفضل لله جل وعلا وحده الذي سخر لنا التكنولوجيا الحديثة التي وفرت لنا سبل الراحة، والأمان في عصر يتطور بشكل سريع، لخدمة بني البشر.