الوطن بحاجة إلى مبضع جراح ماهر
تتابع على وزارة تطوير القطاع العام عدد من الوزراء، ولكن إنجازاتها كانت متواضغة، وفي كثير من الأحيان كانت الأخطاء تتفاقم، وتفاوت الرواتب يتزايد، والترهل في أجهزة الدولة يتمدد، وتبعا لذلك زاد الاحتقان الشعبي الذي وصل إلى درجة الغضب، وتعاظم السخط الاجتماعي، فكان من أهم نتائجهما العنف المجتمعي بصورة ملحوظة في العام الماضي، وكثرة الاعتصامات والمظاهرات هذه السنة.
لعل من أهم أسباب إخفاق حالة الإصلاح والتطوير عدم توافر الإرادة السياسية الكافية عند الحكومات المتعاقبة، إضافة إلى عدم وجود الإنسان المناسب في المكان المناسب في كثير من المواقع، وعدم مكوث بعض الوزراء في مواقعهم مدة كافية، إضافة إلى غياب المؤسسية في العمل في وزارات الدولة ومؤسساتها المختلفة، فكل مسؤول جديد يجبُّ عمل مَن سبقه، وهذه جميعها شوهت عملية الإصلاح، وأدت إلى تواضع الإنجازات.
إن وجود رجل على رأس وزارة تطوير القطاع العام بخبرة الساكت وقدراته باعتبار عمله في ديوان الخدمة المدنية لمدة طويلة أكسبته رؤية يمكن أن يؤسس عليها في تطوير القطاع العام لاسيما مع ما أعلن من وجود إرادة سياسية حقيقية باتت ملزمة للحكومة في ظل تسونامي التغيير الذي يجتاح العالم العربي، والأردن ليس بعيدا عن هذا المشهد، صحيح أن الأردن يتمتع بقيادة ذات شرعية تاريخية كانت لسنين طويلة قريبة من نبض الشارع، فأحبها الناس وآمنوا بها، لكن في ظل الاحتقان العام، وكثرة حالات الفساد، وانتشار ما حولنا من ثورات تغذي الرغبة عند كثيرين بالرغبة بالنصر والإنجاز، والتغيير....مع وجود الإحساس بالظلم، والتفاوت في الرواتب، وتغوّل جهات على مواقع الدولة ومكتسباتها، يجب أن لا يأمنن أحد الجمر المتقد تحت الرماد، ولا شرارة نار قرب البنزين إذ أنها سرعان ما تنفجر، ولعل أقرب مثال على ذلك حالة سورية، فقد بقيت بمنأى عن المظاهرات والاعتصامات مدة من الزمن بعد تونس ومصر، بل إن الذين لبوا الدعوة للمظاهرة الأولى لا يزيدون على عدد أصابع اليد الواحدة، وكانت مطالبهم متواضعة جدا، وكنا نسمع أن سوريا مختلفة!! واليوم نحن أمام ثورة عارمة لا أحد يمكنه التنبؤ بمستقبلها، وربما لو سارع النظام السوري إلى تلبية مطالب شعبه منذ البداية لكانت الأمور أفضل مما هي عليه الآن، مع مراعاة الاختلاف بين الحالتين.
لقد أشار الساكت في الحلقة الأخيرة من برنامج تحت الضوء إلى مجموعة من الأفكار الإيجابية؛ من أهمها أنه لا يعقل إهمال خريجي الجامعات الأردنية، وهم بعشرات الألوف، والاعتماد على عدد من خريجي الجامعات الأجنبية، وقد أصاب في هذا مفصلا؛ لأنه إذا كانت الحكومة غير مؤمنة بخريجي جامعاتها، فعليها إغلاقها، ولا ينفعن حالة التخدير لخريجيها وأسرهم، وحتى يفهم الأهل أن ما باعوه من أراضيهم لتدريس أبنائهم في الجامعات الأردنية غير كاف، وعليهم بيع ما تبقى من أرضهم للتدريس في الجامعات الأجنبية، ولتتحمل الحكومة مسوؤليتها بعد ذلك إزاء مواطنيها الغاضبين، وسمعة جامعاتها الوطنية!!
وتحدث الساكت أيضاعن التفاوت في الرواتب، وتغوّل المتنفذين على المؤسسات الخاصة ذات الرواتب المتورمة، ومنها ذات الأربعين مديرا لعشرين موظفا على حساب الشعب الفقير، وآلية الحل، لكن المواطن يسمع كلاما ووعودا، ولا يرى شيئا ملموسا بعد، لاسيما أن هيكلة نظام الرواتب سيطبق بعد شهور طويلة! وهل تضمن الحكومة ما يمكن أن يحدث في هذه الشهور؟! وهل يمكن للمواطن الذي قهره العوز بعد ما اجترّ ما في داخله من لحم وشحم أن يصبر لشهور أخرى؟ ألم تفهم الحكومة بعد أن سياسة التخدير والترقيع لم تعد تنفع؟! أما من أين تأتي الحكومة بالتمويل؟ فليس من العدالة أن يسأل المواطن عن مصادر التمويل، ولم يُسأل من قبل كيف يُصرف المال الذي يراه من عرقه، ومما يدفعه من ضرائب باهظة، فمثلما موّلت الحكومة جيوب الفاسدين، والرواتب الفلكية لفئة من الناس عليها سد رمق مواطنيها الذين تقوم على سواعدهم أركان الدولة.
أقول للحكومة إذا كان المتقاعدون، والمعلمون، وأساتذة الجامعات، وخريجوها، وأطباء القطاع العام، وموظفو الدولة الآخرين.... وأُسر هؤلاء جميعا يشعرون بالغبن، فماذا بقي من المجتمع الأردني؟! وماذا لو خرج هؤلاء جميعا دفعة واحدة يطالبون بحقوقهم ممن سرقوهم ونهبوهم وباعوهم من الفاسدين والمتنفذين، والمسيطرين على المؤسسات الخاصة وما شابهها؟!
إن الوطن أكبر من المجاملات والخوف، والفتنة عمياء لا تفرق بين فاسد وبريء، فنحن اليوم بحاجة إلى مبضع جراح ماهر يعرف أين يقطع ليخلص الوطن من الورم السرطاني المتمثل بالفساد والمحسوبية، فلا أحد يحب أن يُسلم نفسه لمبضع الجراحين لكننا نبحث عنهم، وندفع لهم مالنا وأجسادنا ليخلصونا من آلمنا، ويحافظوا على حياتنا، وهذا ما يحتاجه الأردن الآن ليمرّ من تحت العاصفة بسلام.