من وحي علمي الذي أفنيت شبابي في تعلّمه، ومن وحي عملي الذي أنفق به على عيالي، فإنني خلصت إلى ما يشبه الاكتشاف، الذي أستحق عليه براءة اختراع؛ ذاك أنّ ثمّة شبهًا كبيرًا وعناصر مشتركة عديدة بين الفاسدين المفسدين وبين الآفات الحشريّة.
خَلَقَ الله -وهو تعالى أبدع الخالقين- للحشرات خاصيّة عجيبة، هذه الخاصية التي تمتاز بها عن بقية المخلوقات هي أنّها تمر بمراحل متعددة خلال نموّها، وأجملُ ما في الموضوع أنّها في كل مرحلة تكون ذات شكل وتفاصيل ومواصفات مختلفة تماماً عن المرحلة التي قبلها أو التي بعدها من مراحل التطور. تبدأ بيضةً صغيرة تافهة الحجم، ملقاة على الهامش، ثم تستحيل دودة أو يرقة، تزحف ضعيفة، تأكل ما تيسّر لها من موادّ لتقتات عليها، يكفيها القليل والكثير، ثم تختبئ في شرنقة، حجرة غريبة كالقوقعة، وتبيت لا تدري ما حولها ولا يضيرها ما قد يحيط بها، ثم تشق ذلك الغلاف وتظهر من جديد للدنيا في حلة وزينة وقوة وعنفوان، حشرة كاملة مكتملة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الفاسدون المفسدون في بلادنا لهم من الحشرات نصيب، إن لم يشبهوها تماماً، فإنهم يسلكون نفس مراحلها؛ هم لا يولدون من بطون أمهاتهم فاسدين، بل موظف صغير، كالبيضة، ملامحه تكاد توحي أنه مواطن عادي، إلا أن غرائزه كامنة، وطموحاته نحو الثراء والنمو أكبر مع حجمه وإمكاناته، محصور داخل قشرة، لا تفهم خيره من شره، ثم يتحول إلى دودة يرقة، يتعلم التغذي والتطفل والتسلق وثقب الملفات وإيجاد ما يمكن أن يلتهمه من أصحابها، تساعده البيئة الرخوة العفنة الضعيفة في النمو والانتفاخ، كلما تغذى أكثر على أموال السحت والمال العام والخاص زاد حجمه، وارتفع شأنه، وقويت شوكته، وأصبحت مكافحتُه معقدة، وإن تركته استمر في الأكل والنمو. ثم تبدي له الظروف والأحوال أن يهدِّئ قليلاً من حركته، يكمن، ويتحوصل، لعل أحدهم قد وعده منصبًا ما أو " هبشة" ما، الأمر يحتاج أن ينظّف نفسه قليلاً أو يطوّر من هيئته أو يستدعي هيبته، فيبتعد عن الأضواء لبرهة من الزمن، مرحلة الشرنقة المختبئة. ثم -وفي الوقت والمكان والكيفية المناسبة- يطلع علينا صاحبنا الفاسد، وقد ارتقى مرتقاه، وبلغ مداه، مسؤولاً كبيراً، أو مُنظّراً فذاً، يبهرنا بحديثه عن الشرف، وتشدقه بالوطنية، محباً للطبيعة، ماجداً، صاعداً، صخرة شماء، أو حيّة رقطاء. حشرة كاملة مكتملة، تفرخ بيوضها وتنتج المفسدين الصغار، وترعى البيئة التي فيها يرتعون. دورة حشرية كاملة، دورة فساد مستمرة، أبطالها: فاسد... وحشرة.
كم كان حرصي أن أخرج عليكم بمقال علمي، أُظهر لكم فيه براعتي المهنية، ولم أكن " أنتوي" الدخول هذه المرة في السياسة، لكنّ المصائب دائماً يتّصل بعضها ببعض وترتبط بأخواتها، والجميل أيضاً أن طرق المكافحة لكلتا الآفتين واحدة؛ الملاحقة، ثم الإبادة.