في جميع دول العالم يعتبر تجّار المواقف لحظة الفتن الداخليّة ، أشدّ خطراً من تجّار الأسلحة في الحروب ، ففي كل حِراك أو مطالبة بالإصلاح ، هناك في الجهة الأخرى فرقة للتدخّل السريع ، تتألف من أبواق وأقلام وصيّادين و وثّابين وجزّارين سياسيّن ، و فئة أطلقت على نفسها "النخب المثقّفة" ، وهؤلاء لا يقلون خطراً عن المُخرّبين والهدّامين والخارجين على القانون ، مهمتهم الوحيدة هي التدخّل السريع وإحداث "بروباغندا" لتشويه أيّ مطالبة بالتغيّير ، و التأثير على الرأي العام من خلال تصوير مطالبات الإصلاح بمحاولات لهدم الدولة -وهنا فقط اتفق معهم- ، بالفعل أيّ محاولة لإحداث تغيّير أو صلاح حقيقيّ لن تنجح إلّا بهدم الدولة ، لكن ليست هذه الدولة التي نحبّ ونحامي بالأرواح والأوتِنَة عن شوكها قبل وردها ، بل تلك "الدولة العميقة جداً" التي يقودها مجموعة من "الصُلعان" و أعوانهم ، الذين أعادوا نحتَ الوطن ليصبح منجماً للذهب الأسود ، وجعلوا من مُقدّراته قدَرَاً حتميّاً لهم ، وشهدوا زوراً على كل ثوابته وإرثه التاريخيّ ، فأعادوا تعريف "المواطنة" بما يتلائم مع مشروعهم الإستثماريّ الإستعماريّ الضخم والمتمدّد على كامل جغرافيّة الوطن ، فكلّ حاجز بشري أو فكري يناوئ هذا المشروع ، هو فكرة خارجة عن مفهوم المواطنة الصالحة بالنسبة إليهم.
جاءت المادة الأولى وفاتحة الدستور الأردنيّ متحدثةّ عن شكل الحكم في المملكة بأنه حكم "نيابيّ ملكيّ وراثيّ" ، ومن هنا يبدأ الحديث عن أيّ إصلاح دستوري والتي لِازاماً أن تتلاقى فيها إرادة قُطبيّ الحكم "الشعب والملك" ، إنطلاقاً من حِراك شعبيّ واعٍ تظهر فيه العناوين العريضة لخارطة الإصلاح المنشودة بشكل سلّمي ودون أيّ مظهر من مظاهر الإستقواء على القانون ، وتمكين هذا الحِراك من الحريّة في التعبير دون إقتلاع حنجرته (تمكينه لا تكميمه) ، ودون توقيف أو إحتجاز لطموحاتهم وتطلّعاتهم ، والإيمان بالخطاب الشعبيّ بأنه شريك ناجز ورئيسي في خارطة التقدّم والتغيّير ، والحرص على تصفية رجال "الدولة العميقة جداً" دستوريّاً ، يقابل ذلك على طاولة الإصلاح إرادة حقيقيّة رسميّة ملموسة في فهرسة هذا الخطاب الشعبيّ في إطار دستوري وقانوني ليكون "مُلحقاّ" معدِّلاً للعقد الإجتماعي الناظم للعلاقة بين كافة أركان الدولة ومكوّناتها وسلّطاتها ويُقرأ معه كوحدة واحدة ، فلا إصلاح جاد بدون إرادة ، ولا إرادة بدون تغيّير ، ولا تغيّير بدون "دسترة" الخارطة الإصلاحيّة لوقف النزف الإجتماعيّ والسياسيّ والإقتصادي ، ومن أبرز خطوط وخطوات الخارطة الإصلاحيّة هو الأتي تبيانه :
أولاً : العودة من الملكيّة المطلقة إلى الملكيّة المقيّدة ، لِما في ذلك من تعزيز للعلاقة بين قُطبيّ الحكم والإبتعاد عن المسائلة الشعبيّة ، وتعزيز أدوات مسائلة ومحاسبة السلطة التنفيذيّة ومكوّناتها.
ثانياً: إعادة الواجب التشريعي لقبضة مجلس الأمّة ، وكفّ يد السلطة التنفيذيّة عن سنّ القوانين المؤقتة والأنظمة وتفعيل الفصل بين هاتين السلطتين.
ثالثاً : تعزيز فصل السلطة التنفيذيّة عن السلطة القضائيّة ماليّاً وإداريّاً.
رابعاً : إجراء إستفتاء شعبي عام قوامه الإقتراع المباشر على أيّ تعديلات دستوريّة ، أو على أيّ معاهدة أو إتفاقية خاصةً تلك التي تحمّل الخزينة إلتزامات أو قروض ماليّة.
خامساً : إنتخاب مجلس الوزراء ومجلس الأعيان من خلال قوائم حزبيّة و بذات الطريقة التي يتمّ من خلالها إنتخاب مجلس النوّاب ، وذلك بعد سنّ قانون إنتخاب وطني جامع وناجز يلبّي تطلّعات الشعب.
سادساً : تمكين الشعب من حلّ مجلس النواب من خلال إجراء إستفتاء شعبي عام قوامه الإقتراع المباشر ، لتكون طريقة الإنتخاب هي ذاتها طريقة الحلّ.
سابعاً : الذهاب إلى مجالس قياديّة شابّة و فتيّة ، من خلال تسقيف أعمار من يشغلوا هذه المجالس ، و ربط كافّة التعيّينات المدنيّة بديوان الخدمة وتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص.
ثامناً : تعزيز حماية الحقوق والحريّات العامّة من خلال نصوص دستوريّة أكثر وضوحاً وجدّية ، بما فيها الحق في التعبير والعمل والصحة والتعليم .
تاسعاً : إلغاء نص المادة (٥٦) من الدستور والتي حصرت في مجلس النواب حق إحالة الوزراء إلى النيابة العامة عن الجرائم المقترفة من قبلهم بحكم وظيفتهم ، والأجدر أن يتمّ كفّ قبضة مجلس النواب عن هذا الحق الدستوري (الحق في التقاضي) وإعادته إلى صاحبة الإختصاص الأمّ (النيابة العامة ) إمّا من تلقاء نفسها بحكم صلب إختصاصها ، وإمّا من خلال الإخبارات المقدمة إليها.
عاشراً : تفعيل الحق في الإجتماع ، و تعزيز الحياة الحزبيّة والنقابيّة والحِراكات السلميّة طالما كانت وسائلها وأهدافها مشروعة.
الحادي عشر : تعزيز وتمكين الإعلام من القيام بواجبه بحريّة مطلقة دون رقابة أو مسائلة ، وإلغاء صفة التجريم عمّا يعرف ب "جرائم الرأي".
الثاني عشر : إستحداث هيئة خاصة أسوة بهيئة النزاهة ومكافحة الفساد ، تراقب أيّ تعيّينات أو تنفيعات يحصل عليها أيّ من أصول أو فروع أو أزواج أو زوجات من يشغل منصب منتخب أو وظيفة قياديّة.
الثالث عشر : الإنتقال من إقتصاد خدماتي ضرائبيّ إلى إقتصاد إنتاجيّ يخلق فرص عمل ، وتعزيز الإستثمار المحلي والخارجي ، وإيجاد أسواق جديدة للمنتج الوطنيّ.
والوطن من وراء القصد
المحامي
حمزة عيسى الفقهاء