مهدي مبارك عبد الله - في يوم فلسطيني تاريخي التحم فيه المواقف بالدم فتعاظمت التضحيات ولم يعد قيمة للحياة بدون كرامة حين كان الفلسطينيون في الداخل عرب الـ 48 والضفة وغزة والشتات على قلب رجل واحد في الغضب ومواجهة العدوان على القدس والأقصى وغزة وبما يثبت على الدوام وحدة الامل والمصير في تلك الاثناء والطائرات الاسرائيلية تدك غزة بمئات الصواريخ والغارات وتقتل الشيوخ والاطفال والنساء وتهدم المباني والابراج والبنية التحية وتعطل الخدمات وكل سبل الحياة كانت المدن داخل الخط الأخضر تمر في حالة غليان وتمرد واستعداد وتحدي كل منهم على طريقته الخاصة في المواجهة والنضال والتصدي لقطعان المستوطنين وقوات الاحتلال ليؤكدوا بصمودهم والتحامهم في لوحة وطنية فريدة ان ( جميع الفلسطينيون كل واحد لا ينقسم ولا يتجزأ ) مهما استبد المحتل وتمادي في الغطرسة والظلم والطغيان
عكا المدينة المحتلة عام 1948 ارض البحر والبر والصمود التي صدت من قبل عشرات السنين وبعنفوان البطولة على يد قائدها احمد باشا الجزار او ( احمد البوشناقي ) العثماني البوسني العجوز الذي اذل الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت وقهر الاستعمار والغطرسة والعدوان وهزم الغزاة من فوق اسوار القلعة عام 1799 تلك الذكريات العبقة شموخا واعتزاز كانت حاضرة في نفوس ابناء عرب الداخل الفلسطيني جنبا الى جنب مع مجريات ( معركة سيف القدس ) في عدة مدن فلسطينية احتج أهلها لعدة أسابيع وبشدة بالغة على اجتياح الكيان الاسرائيلي للقدس الشرقية واخلاء حي الشيخ جراح بالقوة وتدنيس المسجد الأقصى ثم العدوان الهمجي على قطاع غزة
وفي اكثر من مرة تمكن الشباب الثائرين في عكا من إجبار قطعان المستوطنين على الهروب من أجزاء واسعة من المدينة في خطوة أربكت الاحتلال الذي حاول لعشرات السنوات طمس الهوية الفلسطينية والوطنية لأهالي الداخل المحتل واحتسابهم في صف الاحتلال ومسيرة التطبيع الابدية
اثناء المواجهات العنيفة والمتكررة بين الشباب ( الكعاويون المنتفضون ) وقوات الجيش وقطعان المستوطنين المدعومين من قبل قوات الحرس الوطني والشرطة وفي ذروة المواجهات في الداخل الفلسطيني المحتل بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي الشهر الماضي خلال هبتهم ومساندتهم للمقاومة في معركة سيف القدس وبحسب التقارير الطبية أصيب المستوطن اليهودي ( افي هار إيفن ) 84 عام ( عالم الصواريخ الحربية والفضائية ) الاسرائيلية والشخصية الرئيسية في ( تصميم القبة الحديدية ) بحروق شديدة مصحوبة بحالة من الاختناق بسبب استنشاقه الدخان بعد إصابته مباشرة بـ ( زجاجة حارقة ) من قبل المحتجين من ابناء مدينة عكا القيت على ( فندق الأفندي ) الذي كان ينزل فيه حيث دخل في غيبوبة منذ 11 ايار الماضي بعد نقله الى ( مركز رمبام الطبي ) في حيفا
وقد بقي على قيد الحياة من خلال توصيله بجهاز التنفس الصناعي الى ان توفي يوم الأثنين في 6 حزيران 2021 ولم يكن المصاب هو الوحيد بل أصيب آخرون ونجت زوجته التي أقامت معه في نفس الفندق ليكون بذلك ثاني قتيل بعد المستوطن ( يغئال يهوشوع ) الذي قضى بعد إصابته بجروح خطيرة إثر تعرض سيارته للرشق بالحجارة من قبل متظاهرين فلسطينيين خرجوا بعد الإعلان عن استشهاد الشاب موسى حسونة والذي سقط برصاص المستوطنين حيث كانت مدينتي اللد وعكا من أكثر المدن المختلطة تضررا من الاضطرابات العنيفة بين العرب واليهود والتي اندلعت على خلفية الحرب مع غزة في الفترة من 10 إلى 20 ايار الماضي وقد جاءت احتجاجات فلسطينيي الداخل لمساندة سكان حي الشيخ جراح المُهدد بالتهجير القسري وللاحتجاج ايضا على الاعتداءات الإسرائيلية ضد المصلين في المسجد الأقصى والعدوان على غزة
بدأ الجنرال احتياط ( هار إيفن ) حياته المهنية في الجيش الإسرائيلي في أوائل الستينيات في أنظمة الحرب الجوية ثم عين رئيساً لدائرة الدراسات والتطوير في هيئة الأركان المشتركة ورئيساً لقسم المهمات الخاصة في وزارة الدفاع وقد كان من أوائل المشاريع الصناعية العسكرية التي شارك فيها تطوير المدافع السويدية المضادة للطائرات والتي كانت في ذلك الوقت جزءًا من قدرات اسرائيل المضادة للطائرات طراز L-7 وبعد ان تسريحه من الجيش تولى سلسلة مناصب في الصناعات الجوية وأدار تطوير منصة إطلاق الاقمار الصناعية ( شبيط ) كما كان المدير الخامس لوكالة الفضاء الإسرائيلية من عام 1995 الى 2004
وزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس علق على موقع "تويتر" على خبر الوفاة فقال ( سمعت بأسف كبير خبر وفاة ( آفي هار إيفن ) بطل إسرائيل الحائز على ( جائزة أمن إسرائيل ) ومدير وكالة الفضاء السابق والذي ساهم كثيرا في تحقيق امن إسرائيل بطرق ( بعضها لا يمكن الحديث عنه لأهميته وسريته ) وعندما تمنح الجوائز للفائزين هذا العام سنذكر مساهماته التي لا تقدّر بثمن وان رحيله شكل خسارة كبيرة لإسرائيل
وصفته صحيفة ( يديعوت أحرونوت ) العبرية بعد مقتله بأنه كان رجل غامض حصل على جائزة الأمن الإسرائيلي العليا بعد أكثر من 50 عام من عمله في جهاز الأمن وان الكثير من خدماته وأعماله وتفاصيلها لا تزال سرية ولا يمكن نشرها كما أشارت الصحيفة ذاتها إلى أن ( آفي هار إيفن ) كان شخصًا يعرف كل الأسرار في اسرائيل وقد كان ايضا الرئيس التنفيذي لشركة رافائيل للصناعات الحربية
ربما لم يكن يعلم الفلسطينيون الثائرون في مدينة عكا أن ( هار إيفن ) كان داخل الفندق نفسه الذي تعرض للهجوم من قبل المحتجين حيث ( قتل بسلاح بسيط لا يقارن بما صنعه بنفسه لذبح الفلسطينيين وتدمير حياتهم ) في القدس الشريف وغزة وهو اهم شخصية عسكرية قتلها الفلسطينيون في معركة سيف القدس ورغم جميع الوسائل القتالية والاستخباراتية التي قاد مشاريع تطويرها وحجم الأسلحة والصواريخ المتقدمة التي ساهم في تصنيعها إلا أن المستوطن ( آفي هار إيفين) قُتل في النهاية ( بزجاجة حارقة ) ألقاها شبان فلسطينيون يافعون ولم تفلح كل التقنيات المتطورة والمنظومات الأمنية المتقدمة في حمايته
يعتبر ( آفي هار إيفن ) من كبار علماء اسرائيل في مجال الصواريخ ففي عام 1982 كان برتبة عقيدً في الجيش اضافة الى انه كان عضوًا بارزًا في مجال الصناعات الجوية الاسرائيلية حيث قاد فريقًا قام ببناء صاروخ ( شافيت الفضائي ) وهو صاروخ قوي يستخدمه الجيش الإسرائيلي لإطلاق قمر التجسس في الفضاء لمدة تسع سنوات كما ترأس قوات الميليشيات العاملة في نظام دفاع ( صواريخ هوك ) الامريكية قرب منشأة ديمونة النووية في صحراء النقب من عام 1987 إلى عام 1990 وهو حاصل على جائزة الدفاع وكان دائما يهزأ من محور المقاومة ويذكر زملائه من الجنود بملحمة النبي داود ضد جالوت
كما شغل ( آفي هار إيفن ) مناصب عليا يشغلها الآن جنرالات كبار في الجيش الاسرائيلي وقد عمل على تعزيز العلاقات الدولية لإسرائيل وخصوصاً مع وكالة ناسا العالمية للفضاء وشغل ايضا منصب مدير قسم الفضاء والقاذفات في ( منشأة مالام ) وهي مجموعة فرعية مهمة وحساسة من الصناعات الجو فضائية الإسرائيلية وفي عام 1994 خلال فترة عمله في المركز تم تفعيل الاتفاقيات الأولية بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتطوير نظام الدفاع المضاد للصواريخ ثم تم اختاره كأول رائد فضاء في اسرائيل
ولد ( آفي هار إيفن ) في 7 ايار1937 في رومانيا بأوروبا الشرقية وهاجر إلى الأراضي المحتلة عام 1950 بدأ دراسة الهندسة الميكانيكية في إسرائيل عام 1955 كطالب في الجامعة التقنية ولكن بعد أسابيع قليلة من الدراسة توقفت الدراسة وتم تجنيد الطلاب في وحدات المدفعية والمدرعات حيث تدرب هار إيفن كرجل مدفعية وأرسل إلى سلك الضباط وعمل ضابطا في الكتيبتين 404 و402 في عام 1959 ثم تم تجنيده من قبل الجيش لإكمال دراسته الأكاديمية للعمل كضابط في وحدة المدفعية تخرج من الجامعة التقنية الإسرائيلية عام 1963 بدرجة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية وأثناء دراسته نقل مسؤولية مجال الصواريخ إلى القوات الجوية وفي عام 1968 تم نقله إلى جيش الجيش الإسرائيلي للعمل في مجال البحث والتطوير وخلال فترة عمله هذه قاد مجموعة فازت بجائزة الأمن الإسرائيلية كما أسس وحدة ( ميتال ) التي كانت مسؤولة عن البحث والتعاون العلمي مع أجهزة الأمن في الدول الصديقة لاسرائيل بالتوازي مع خدمته حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة تل أبيب
بعد تقاعده واصل العمل كرئيس تنفيذي لشركة تكنولوجيا وفي عام 1982 قاد فريق شويت لتطوير الأقمار الصناعية من عام 1987 إلى عام 1990 وفي عام 1995 تم تعيينه مديرًا لوكالة الفضاء الإسرائيلية وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2004 ومنذ عام 2008 كان عضوًا في معهد البحوث العليا التابع لمركز ( بيغن السادات ) للدراسات الاستراتيجية في جامعة بار إيلان وقد تزوج آفي هار إيفن من ميريام كالديرون وأنجب ثلاثة ابناء ( ياعيل ويوآف وعود ) وان ابنه يوآف هو أيضًا من ( نخبة علماء الصواريخ الاسرائيليين ) وقد تقلد موقع الرئيس التنفيذي لشركة رافائيل الإسرائيلية للصناعات العسكرية حتى عام 2015 ويشغل حاليًا منصب نائب مدير قسم العمليات في الجيش الإسرائيلي برتبة عميد
لقد فقد الكيان الاسرائيلي على يد الفلسطينيون ابناء عكا المقاومة ( عنصرًا عسكريًا مهما جدًا ) وهنا قد يتساءل المرء طالما ان ( هار ايفن ) شخصية عسكرية مهمة لماذا لم يعمل جهاز الشابك ( الامن الداخلي ) المسؤول عن حماية الشخصيات الاسرائيلية الهامة على نقله الى مكان اكثر أمن من المدن المختلطة والتي تسودها الاضرابات والعنف بشكل مستمر ثم لماذا كان يقيم في فندق وهو متزوج وله ابناء واسرة الجواب هو الخوف والقلق على حياته ومكان وجوده وتلك هي الاستراتيجية التي بناها محور المقاومة ( فليقلقوا ) وهي المعادلة التي أوجدتها المقاومة رداً على اغتيال قادتها في فلسطين ودول عربية وإسلامية أخرى والتي تحولت بتوالي المواجهات إلى حرب نفسية في كل اسرائيل والتي لم يجدي معها التحذير والإجراءات الاحترازية نظرا لرد المقاومة المدمر في كل مرة وفي وضع لا يملك فيه الكيان الاسرائيلي أي قوة للرد أو الردع بعدما ساد مفهوم توازن القوى والرعب
لعل في هلاك ( آفي هار إيفن ) أب الصناعات الفضائية والصاروخية الإسرائيلية وأهم مطوري منظومات الدفاع والصواريخ الإسرائيلي على هذه الشاكلة بـ ( زجاجة مولوتوف حارقة ) هو انتقام رباني عاجل يسره الله بقدرته للرد على اغتيال الشهيد العالم المهندس ( الدكتور جمال الزبدة64 ( عام ا لذي اغتالته إسرائيل برفقة قادة بارزين في كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية خلال الحرب الاخيرة على غزة داخل احد الانفاق والذي وصفته وسائل إعلام إسرائيلية بأنه ( صيد ثمين ) حيث كان يمثل قوة رئيسية في منظومة سلاح حماس فهو المسؤول عن إنتاج وتطوير الصواريخ والذي عمل في وكالة ناسا بالولايات المتحدة إلا أنه قرر عام 1994 العودة إلى غزة بحثا عن دور في خدمة وطنه وشعبه حيث ساهم في تطور كبير ولافت في قدرات حماس الصاروخية بإدخاله لذراعها العسكرية كتائب القسام أنواع جديدة من الصواريخ التي تتمتع بمدى أكبر وبقدرة على حمل رؤوس متفجرة ذات قوة تدميرية عالية فهذا العالم والجنرال الاسرائيلي ايضا يعتبر ( صيد ثمين ) للفلسطينيين جاء الى حتفه برجلية ليقتله ثلة من الشباب الفلسطيني الثائر غضبا وعنفوان في داخل كيان الاحتلال دون تخطيط أو علم مسبق ( وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى ) صدق الله العظيم
mahdimubarak@gmail.com