إنَّ اللغة الوحيدة التي يعترف بها المواطنون بالأمس واليوم وفي المستقبل، هي لغة الإنجاز، لغة الأعمال الجليلة المتميزة ذات الجودة العالية، لغة الإبداع في العمل، لغة المنجزات النوعية التي يفخر الإنسان بها، ويعتز أن تدون في سجل حياته، وأن تبرز في سيرته الذاتية. ولغة الإنجاز تقترن عادة بالشخصية القيادية وتميزها عن الشخصيات الهامشية التي تتبوأ مراكز قيادية ليست أهلاً لها، ولذا فهي شخصيات عابرة لا تترك أثراً، ولا تستطيع أن تنجز شيئاً حقيقياً.
والشخصيات العابرة، تخلط عادة بين العمل الروتيني والإنجاز، بقصد أو غير قصد، في محاولة للظهور وتلميع صورتها، وإيهام الآخرين أنها ذات قيمة. وهذه الشخصيات تضخم أعمالها، وتبالغ في قيمتها، بل وتجيِّر أعمال غيرها لها، ولا تتردد في الكذب والإدعاء والاختلاق!
لقد ملَّ المواطنون من الأدعياء والمتشدقين الذين ينسجون أحلام الوهم، ويستغفلون الناس، ويعدونهم بالعسل والمن والسلوى. في حين إنَّ الشعوب لا تصدق ولا تثق إلا بلغة الإنجاز واقعاً ملموساً، فهم يريدون طحيناً لا جعجعة فارغة، يريدون عملاً وإنتاجاً لا وعوداً وخططاً مستقبلية. ويا ليت نسجة الوهم والكذب يعملون بقدر ما يتكلمون لكان إنجازهم عظيماً، ونتاجهم غزيراً، ولكنهم عاجزون عن أي فعل حقيقي لأنهم في مكان غير مكانهم ومناصب أكبر منهم. ولا ندري هل ظلمت بهم مناصبهم أو هم ظلموا بها؟ لأنهم تسلموها لا عن كفاءة وجدارة وإنما للوساطات والمحسوبيات، وهم أشبه بمن أكل مقلباً ولا يريد أن يعترف بذلك مكابرة، ويخفون ذلك بنفاقهم وخداعهم ودهلزتهم وشخصياتهم المرحة وإدعاء الثقافة والمعرفة، تساندهم بطانة فاسدة أتقنت فن التلميع والمداهنة وإعطاء صورة مغايرة للواقع. وللأسف فإن هذه الشخصيات تسيطر على معظم المناصب في كل المواقع، وخير دليل على ذلك ضحالة المنجزات وبؤسها.
إن لغة الإنجاز تحتاج إلى شخصيات تؤمن بالعمل كقيمة إنسانية سامية، وأن اتقان العمل مقدم على معسول الكلام، وأن الإبداع عبادة، وأن خدمة المواطنين حق لهم، وأن تجنب المشكلات خير من علاجها، وأن البناء على ما سبق فضيلة، وأن الإخلاص والعدالة والوضوح والشفافية من ضرورات أي عمل ناجح.
يحسب بعض ضحلة العقول أن الإنجاز يعني التعامل مع الأعمال اليومية الروتينية، وعقد الاجتماع تلو الاجتماع، واستقبال المراجعين وتوديعهم، وتوقيع الكتب، والرد على المكالمات، وتلبية الدعوات، وحضور الحفلات. غير مدركين أن عدد الاجتماعات يتناسب عكسياً مع الشخصية القيادية، فكلما كثرت الاجتماعات دلّ على ضعف قيادي وعدم وضوح الرؤية والتعليمات وتحديد المهام، وأن كثرة المراجعين للمسؤول القيادي يعني خللاً في العمل، وأخطاء وتهرباً من المسؤولية. وأن تلبية الدعوات وحضور الحفلات يدل على شخصية ضعيفة مخلخلة، لم تدرك بعد واجباتها والأعمال المنوطة بها. وهؤلاء يحسبون أن مؤسساتهم لا يمكن أن تقوم قائمتها إلا بهم، ولا يدركون أن غيابهم خير من وجودهم، لأن وجودهم في حد ذاته عقبة ومصيبة!
والإنجاز ليس بالضرورة أن يكون أعمالاً مادية، بل قد يكون سلوكيات وأخلاقيات ترسخت، وقيم غرست، ومبادئ زرعت، وعدالة تحققت. فهذه إنجازات يلمس أثرها المواطنون قبل الموظفين، لأنها تخلق بيئة نظيفة جميلة مريحة ينعم بها الجميع.
في مقالة للكاتب الكبير فهمي هويدي بعنوان " رسالة غيرة وغيظ من تركيا" نشرت بتاريخ 25-12-2007 في صحيفة الشرق القطرية وغيرها، عن مشاركته في مؤتمر للحوار المصري- التركي، يقول: " لا يقصر الأتراك في التعبير عن الزهو بما حققوه في المجال الاقتصادي، الأمر الذي أهل بلادهم لأن تصبح من أهم 15 دولة صناعية في العالم، إلى جانب أنها تحتل المرتبة السادسة بين أفضل الدول المنتجة والمصدرة للمنسوجات.
شأن كل نجاح يأسر الناظرين ويجعلهم يصرفون النظر عن كل ماعداه، فإن إنجازات التجربة التركية ظلت مخيمة على الحوار طوال الوقت. وهى هيمنة مستحقة، ترشح الواقفين وراءها لنيل مختلف جوائز التقدير والإعجاب. إذ في عالم السياسة فإن الجائزة الكبرى التي ينالها أهل الحكم في أي بلد هي رضا الناس، واقتناعهم بأن استمرار الحاكمين في مواقعهم يضيف إلى حياتهم ويقلل من معاناتهم ويعطيهم أملا في مستقبل أفضل. وهذا بالضبط ما فعله حزب العدالة والتنمية، حين خاطب المجتمع بلغة الإنجاز، التي تردد صداها في بيوت الناس وجيوبهم. من ثم فإنهم لمسوا ذلك الإنجاز ولم يقرأوا عنه في الصحف فقط. وهو ما حدث حين تضاعف متوسط دخل الفرد في أربع سنوات من 2500 دولار في الشهر إلى خمسة آلاف دولار، وحين انخفضت نسبة التضخم في الفترة ذاتها من%37 إلى%9 ، وحين استقر سعر الليرة التركية وتجاوزت مرحلة التقلبات المفاجئة، وحين وزعت الكتب والكراريس بالمجان على عشرة ملايين تلميذ بالمدارس الحكومية في المرحلة قبل الجامعية، وحين تم بناء 300 ألف مسكن للعائلات الفقيرة. وحين تم توزيع مليون ونصف المليون طن من الفحم على المعوزين في شتاء كل عام. ذلك غير زيادة قيمة الصادرات من 36 مليار دولار إلى 95 ملياراً، وتخفيض ديون تركيا لدى صندوق النقد الدولي من 23 مليار دولار إلى 9 مليارات فقط (رئيس البنك المركزي في أنقرة صرح بأن بلاده لم تعد بحاجة إلى صندوق النقد)، وشق طرق في أربع سنوات بطول 6500 كيلو متر، في حين أن كل ما تم شقه منذ قيام الجمهورية قبل 80 عاماً لم يتجاوز 4500 كيلو متر... إلخ.
حين يكون الإنجاز بهذه الصورة فإن أي قادم إلى تركيا وأي متحدث عنها لا يملك سوى أن يحني رأسه تقديراً لتجربتها، ولا بد أن يعذر إذا ظل بصره مشدوداً إلى الوجه الإيجابي في التجربة، ويصبح النظر إلى ما هو سلبي فيها من قبيل التصيد والتنطع غير المستساغين. بوجه أخص فإنه حين يكون الزائر قادما من مصر فإن تعامله مع التجربة ينبغي أن ينطلق من منظور التدبر والتعلم قبل اى شيء آخر.
إن أردوغان وجماعته خاطبوا المجتمع بلغة الفاعلين المنجزين الذين يتطلعون إلى خدمته والنهوض به. وكانت النتيجة أن الناس انحازوا إلى الفاعلين المنجزين وليس إلى الدعاة القوالين.
إن ما فعلته تركيا ليس فيه سر، لان التقدم له أسباب من اخذ بها فاز، ومن تخلى عنها خاب وانتكس. ولا يقف الأمر فيه عند حدود الرغبة، وإنما لابد لتلك الرغبة من عزيمة قوية وإرادة مستقلة. وذلك سبب إضافي لما عانيته في الرحلة الأخيرة من غيرة وغيظ وحزن " انتهى الاقتباس.
وبعد، فإن لغة الإنجاز أصبحت لغة عالمية يفهمها جميع الناس في كل مكان دون الحاجة إلى أية كلمة، وهي اللغة التي لا يتقنها إلا القادة والمبدعون والمتميزون من المسؤولين، وهي اللغة التي تحظى بالاحترام والتقدير والخلود. ويا ليت كل مسؤول مهما علت مسؤوليته أو دنت يتعلم هذه اللغة وأبجديتها ومفرداتها، ويكف عن أن يمارس خداعه وكذبه، ويستعرض عضلات خيبته، ويبني للناس قصوراً في الهواء، ويتبجح ببطولات نسجها وهمه، ويتغنى بأعمال ليس له فيها ناقة ولا جمل!
mosa2x@yahoo.com