زاد الاردن الاخباري -
إن من أفضل أنواع المعرفة، معرفة حدودك ... فاعرف حدودك .
عندما أراد الإنسان ارتياد الفضاء، خارج نطاق الغلاف الجوي، استعمل أداتي المعرفة، وهما ( العقل والحواس ) لابتكار وصناعة مركبات ومعدات وأدوات وتجهيزات تمكنه من ارتياد الفضاء، فالله عز وجل مكن الإنسان من سلطان العلم عندما هداه بنوره الأدنى وأرشده لما يجعله قادرا على تسخير الأشياء وتطويعها للإستعمال في تحسين من مستوى معيشته وتطوير حياته وتسهيل حركته وفي إكتشاف بعض آيات الآفاق والأنفس .
( … نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ…) ( 35 ) النور .
لقد ذكرت في عدة مقالات بأن النور الأدنى الذي ينير جزء من العقل نور متاح لكل إنسان، وهو نور ينتج من ورائه ( عقل المعيشة، أو عقل الوظيفة وتمشية الحال في الحياة الدنيا )، وهناك مسلك لتحصيله قد هدى الله وأرشد إليه الإنسان، وهو البحث العلمي والمنهج التجريبي، وهو مسلك يعتمد على أداتي المعرفة وهما ( العقل والحواس ) .
فرب العالمين مثلما وضع مسلك يؤدي عند سلوكه - من قبل الإنسان - إلى ما يجعله يحوز على النور الأدنى ليصنع ما يجعله يرتاد وينفذ إلى أقطار السماوات والأرض الظاهرة في عالم الماديات والمحسوسات، كذلك في المقابل وضع مسلك يؤدي عند سلوكه من قبل الإنسان ما يجعله يحوز على النور الأعلى لينفذ بواسطة معراج العقل - القرآن الكريم- إلى أقطار السماوات والأرض في عالم الروحانيات واللامحسوسات وعالم الأفكار، ليرتاد العوالم الفكرية التي اختص الله بها الذين أنعم الله عليهم بالهدى ونور اليقين، وهي تختلف عن العوالم الفكرية التي تهيم بها عقول المغضوب عليهم والضالين وبينهما مسافات شاسعة .
عندما خاطب الرسول ﷺ قومه وأبلغهم بالرسالة نعتوه بالجنون، وهذا أمر طبيعي جرى على الرسل والأنبياء، فالرسول ﷺ قد خاطبهم بمنطق يختلف عن منطقهم، وعرض عليهم افكار الرسالة وجواهر الأفكار التي استمدها من العوالم الفكرية للذين أنعم الله عليهم بالهدى ونور اليقين، وهي تختلف عن العوالم الفكرية التي كانت تهيم بها عقول الكفار والمشركين، فهي عوالم المغضوب عليهم والضالين.
قال تعالى ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) ) الرحمن .
فالإنسان العلماني المصاب بوهم الإستغناء عن الله جل قدره، والذي يلحد و يكفر ويشرك بالله جل شأنه، عليه ان يعرف حدوده وحدود إمكاناته وقدراته التي أقصى ما يمكن أن تقدمه له الوقوف على بداية وأطراف وحواف حدود العوالم الفكرية التي ترتادها عقول من أنعم الله عليهم بالهدى ونور اليقين، وهو ليس له إلا أن يقف أمامها حائرا، ف( لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَان) . .
فمن ارتادت عقولهم العوالم الفكرية للذين أنعم الله عليهم بالهدى ونور اليقين لا يستغربون إطلاقا من عدم قدرة من يقفون على أطراف وحواف عوالمهم الفكرية النفاذ إليها، فالفهم والاستيعاب وحظر الفهم والاستيعاب بيد الله جل شأنه، فالأمر يتوقف على علم الله جل قدره بالتفاصيل الدقيقة لما في البواطن والقلوب كالنية وأهواء النفس ورغباتها ...الخ، فالله عز وجل ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) ) غافر .
( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة .
إذا كان هناك ريب وشك فهو بالعقول المنفصلة عن الوحي الإلهي التي فقدت الهدى والرشد، فلا هدى إلا لمن اتقى وبالنبي قد اقتدى .
وقد يكون الإنسان قد ارتكب ما يستوجب اللعن، أي الطرد من رحمة الله عز وجل، وهو يكابر ولا ينوي التوبة والاستغفار والإنابة، وأعظم الرحمات هو العلم بعد الرضا، فما على المؤمن العارف بالتفاصيل إلا البلاغ المبين وعلى الله الهدى . ( … وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) ) النور .
( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ... (272) البقرة .
إذا طردك الله عز وجل من رحمته، وجعل منك مطية للشيطان بعد ما سلطه عليك ليزين لك سوء عملك، وأضلك وحظر عليك الفهم والاستيعاب والإيمان بعد ما علم بما في قلبك، وكما حدث مع أبي لهب وامرأته حمالة الحطب، فماذا نفعل معك ؟ !، فحينها لن تجدي معك النصيحة والحكمة والموعظة الحسنة، حيث ستكون في وضع مأساوي يثير الشفقة، ولا حول ولا قوة الا بالله.
إذا وجدت الله فماذا فقدت؟، واذا فقدت الله ماذا وجدت ؟.
( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) ) فاطر .
( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) ) التكوير .
إن غربة الروح غربة مؤلمة، لا يشعر بألمها من ألفوا واستسلموا للأسر والسبي الشيطاني الناعم الخفي، ومن أقوى القيود المخدرة التي تبقي الناس في الأسر والسبي دون شعور ودون وعي، هو، دين الإرث والإلف والعادة والحمية والعصبية .
وإذا اختارك الله عز وجل وتفضل عليك وهداك ( هداية الدلالة ) إلى صراطه المستقيم فاشكر الله عز وجل على ذلك، وكن (( صادقا )) وهي أهم مسالة، عند قولك في صلاتك ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) حتى يمن عليك ( بهدايات المعونة ) عند قولك ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) عندما تسأله ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )، فلا غنى للمؤمن عن هدايات المعونة عند سيره على الصراط المستقيم الذي تحفه الشبهات والشهوات والمواقف والفتن ويملأ جوانبه المضللين من الدعاة الذين يسلكون سبل المغضوب عليهم والضالين المتعددة، فهدايات المعونة تنير الطريق والصراط وتثبت المؤمن عليه ليصل لمرحلة المصير وهو آمن وسالم، فلذلك لا غنى عنها .
قال تعالى ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) ) الحجرات .
فأقطار السماوات والأرض المادية الظاهرة استطاع الإنسان أن ينفذ إلى جزء بسيط منها بواسطة سلطان العلم، الذي تحقق عندما حاز الإنسان على النور الادنى، وأقطار السماوات والأرض الروحية والفكرية يستطيع المؤمن النفاذ إليها بواسطة سلطان العلم الذي يتحقق بعد تأييد الله له بالروح الذي يتفاعل معه معراج العقل، أي القرآن الكريم والوحي المسطور، لينير العقل بالنور الاعلى . ( … أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ … ) (22) المجادلة .
قال تعالى ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) ) فصلت .
ففي عالم الماديات، حدودك يا إنسان هي ما تصل إليه حواسك فقط لا غير، فحتى ما تدركه بواسطة المجاهر الالكترونية ( كفيروس كرونا ) ستقف أمام خطره حائراً إذا لم يأتيك نور وهدى من الله ليكفيك شره، فعليك شكر الله بعد معونة الهداية إلى ما يكفيك شره وكل شر يتربص بك ظاهر وخفي، فبعد أداء الشكر ستتمتع بهدى المعونة الدائمة من الله عز وجل.
رحم الله امرئ عرف قدر نفسه.
المفكر الإسلامي/ محمد عبد المحسن العلي - الكويت
2031mohammad@gmail.com