مهدي مبارك عبد الله - بعد مرور ما يقرب من عامٍ على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت في 6 / 8 / 2020 وإطلاقه خطة او مبادرة فرنسية لتخفيف أزمات هذا البلد الذي كان مستعمرةً سابقةً لبلاده الا انه لم يتحقق أي شيء ملموس على ارض الواقع حتى اليوم
أسعار المواد الغذائية تواصل الارتفاع باطِّرادٍ وانهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية يزداد ويتفاقم وازمة طوابير الراغبين في التزود بالوقود تمتد لأميالٍ والمظاهرات والاحتجاجات تعم مناطق رئيسية من البلاد واتهام المسؤولين بالفساد وتقويض تشكيل الحكومة والتهرب من المسؤولية مستمر حتى ان الجيش اللبناني الذي يقوم بحراسة الحدود المصنفة بانها الأكثر حساسيةً في العالم والمعني بحماية الأمن والسلام الداخلي في مجتمع عميق الانقسامات بدأ ( يقرع أجراس الإنذار ) محذرًا من أنه قد يكون على وشك الانهيار بسبب الضغط المالي الذي يثقل كاهل الجنود ناهيك عن تصريحات رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب قبل ايام بان بلاده على مسافة أيام قليلة من الانفجار الاجتماعي وان اللبنانيين يواجهون وحدهم هذا المصير المظلم والخطير بكل المقاييس وهو يطلب الفزعة العاجلة والمساعدة الشاملة لتخليص لبنان من ازماته الداخلية والحيلولة دون سقوطه في متاهات الاضطرابات والعنف وبراثن الهلاك والضياع
البعض يرى ان التدخل الإيراني والخلافات مع الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع حزب الله الذي يرتدي ( ثوب الميليشيا المسلحة والحزب السياسي في آنٍ واحد ) ساهمت في تقويض المبادرة الفرنسية مبكرا لكن جوهر المشكلة الواضح في رأي الكثيرين كان بـ ( اعتماد نجاح الخطة الفرنسية ) على الطبقة والنخب السياسية اللبنانية نفسها التي كانت في المقام الأول متهمةً بالتسبب في الكوارث وحالة التردي التي ابتلي بها لبنان خاصة بعد رفضهم الشروع والمشاركة في الإصلاحات المطلوبة حيث كان ذلك بلا شك من أكبر اسباب الانهيار للخطة الفرنسية اضافة الى إحجام فرنسا بقوتها عن فرض عقوبات قاسية وتكبيد النخبة السياسية ثمنًا باهظًا لسلوكهم بدلًا من الاكتفاء بمناشدتهم لفعل ما ينبغي فعله والذي كان أمرا ساذجًا للغاية وكانت له آثار مدمرة في نهاية المطاف على لبنان ومواطينيه
في البدء كانت هنالك بارقة خير وبصيص أمل سيما وان ماكرون كان أول زعيم أجنبي يزور لبنان بعد الانفجار الهائل الذي دمر مرفأ بيروت وأدى إلى مقتل 200 شخص وإصابة الآلاف وتشريد مئات الآلاف بين عشية وضحاها وبينما كان ماكرون يتفقد منطقتي ( الجميزة ومار مخايل ) وهما من أكثر الأحياء اللبنانية القريبة من المرفأ تضررا من الانفجار والتان يسيطر عليهما المسيحيون وتصطف على جانبي شوارعهما الحانات والمقاهي والمباني التراثية ويرى كثير من سكانها أنهم تابعون ومتحالفون منذ القدم ثقافيا وحضاريا مع فرنسا
اللبنانيون وهم يحيطون بالرئيس ماكرون كان حزنهم يخيم على كل الأجواء وقد أقتحم الكثيرون منهم الطوق الأمني وساروا بين الأنقاض ليذرفوا الدموع امامه فيما أراد آخرون فقط أن يحتضنوه أو يشدوا على يديه بينما كان معظم ( سياسيوهم يختبئون خوفا من تعرضهم للغضب الشعبي العارم ) وقد ظهرت زيارة ماكرون وكأنها تثير آمال اللبنانيين بأن فرنسا تمد لهم يد العون وسوف تضمد جراحهم وتضع حدًا لمتاعبهم
من المؤكد أن آخرين في الخارج انتقدوا ماكرون ووصفوه بأنه مستعمر جديد وصورة مطورة عن الانتداب القديم ( حتى عام 1943 كان لبنان تحت الانتداب الفرنسي ) وقد كان الفرنسيون على الدوام يدافعون عن المسيحيين الموارنة خاصة ودون المسلمين ومنذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان اضطلعت فرنسا تحديدًا بدور الوسيط الغربي بين لبنان والمجتمع الدولي لجمع الأموال من أجل الانتعاش الاقتصادي للبنان والذي لم يتحقق بتاتا
الحركة الشعبية الاحتجاجية الشاملة التي انطلقت في لبنان خلال شهر تشرين الأول عام 2019 حذرت المجتمع الدولي علانية من اعادة ( ضخِّ أموالٍ تساعد في إنقاذ سياسييهم وتحمي ادوارهم المشبوهة في اجهاض أي محاولة لتغيير الواقع اللبناني ) كما طالبوا ايضا بتطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية ضمن برنامج محدد ولهذا عندما عاد ماكرون في زيارته الثانية بعد شهر في أيلول عام 2020 استدعى معظم السياسيين المعنيين ووضع ( خريطة الطريق الفرنسية ) أمامهم وحثهم للاستفادة من المساعدات الدولية لكنه جعلها مشروطةً بالإصلاحات ) وقال لهم لا توجد شيكات على بياض )
كما دعت خارطة الطريق الفرنسية في حينه إلى ضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة في غضون 15 يوم اضافة الى إجراء انتخابات مبكرة وتطبيق إصلاحات عاجلة على الأقل في قطاع الكهرباء الذي كان يستهلك أكثر من 1.6 ملياري دولار من خزينة الاموال العامة سنويًا لكن على ارض الواقع المرير بقي الفشل الدائم في عدم القدرة على توفير أي مصدر للطاقة يفي باحتياجات المواطنين اليومية
الحقيقة انه ليس من السر القول ان بعض السياسيين عطلوا آليات المساءلة للانتخابات المبكرة وقوضوا تشكيل حكومة مؤقتة وهي الخطوة التي كان لبنان بحاجةٍ ماسةٍ إليها من أجل التفاوض مع صندوق النقد الدولي على ( حزمة الإنقاذ ) فيما كان السياسيون البنانيون في ذات الوقت يتجادلون ويتصارعون بشأن المناصب الوزارية والحصص التي ستمنح لوكلائهم حتى يتمكنوا كقوى مؤثرة ولوبيات من الاستمرار في السيطرة واتخاذ القرارات من خارج الحكومة
على اثر ذلك استقال رئيس الوزراء اللبناني آنذاك حسان دياب بعد أسبوع من الانفجار لكنه لا يزال رئيس وزراء تصريف الأعمال وقد عين سعد الحريري رئيسًا للوزراء في تشرين الأول من العام الماضي لكنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة والسبب الرئيس ان هنالك ( دوائر مغلقة افشلت كل الخطط والوساطات والمبادرات على اهمية بعضها )
في متابع المشهد ربما كان على الرئيس الحريري الاستسلام لحزب الله وحليفته حركة أمل ثم التنازل عن وزارة المالية المهمة لـ ( مرشحٍ شيعيٍّ ) لكن خلال الأشهر القليلة الماضية كان الحريري يتوجه إلى قصر بعبدا الرئاسي في جبل لبنان مقر إقامة رئيس الدولة للحصول على موافقته على التشكيلة الوزارية وهو مجرد إجراءٌ شكليٌّ يتطلبه الدستور
وهنا لا بد من الاشارة الى بعض تكتيكات المماطلة والتسويف التي اتبعها ومارسها الرئيس اللبناني ميشال عون وأن محبته لوريثه ( جبران باسيل ) اصبحت تكلف البلاد غاليا اضافة الى تلك الضغوطٍ التي مارسها صهره ووزير الخارجية اللبناني السابق باسيل الذي كان يهدد بفرض حق النقض (الفيتو) في الحكومة ويصر على منح مساعديه نسبة الثلث زائد واحد في الحكومة وبالمناسبة على اثر ذلك كان باسيل أحد أكثر السياسيين الذين نالوا ازدراء المحتجين اللبنانيين الغاضبين الذين قالوا إنه ( يرغب في أن يحل مكان عون المسن رئيسًا وهو رجل اناني وأن بقاءه السياسي أهم بالنسبة له من بقاء بلاده )
يذكر ان الولايات المتحدة عاقبت مؤخرا جبران اسيل بموجب ( قانون ماجنيتسكي ) لمعاقبة المتورطين في قضايا الفساد في حين قال محللون لبنانيون إن ( باسيل ليس لديه ما يخسره من جراء تجاهل الفرنسيين له وإنه أصبح يائس من امكانية إعادة تأهيله سياسيا ) حتى زملاؤه السياسيون يجدون صعوبة في التعاطي مع افكاره وشخصه خاصة مع اصرار الرئيس عون على أن يضطلع صهره بدورٍ رئيسي في الحكومة لكن الحقيقة انه لن يوافق أي رئيس وزراء قادم يتمتع بكامل قواه العقلية على حكومة يتمتع فيها حزب واحد بسلطة معطلة
ومن منظور اخر ومختلف لدى البعض ساد اعتقاد شبه يقيني بان حزب الله يشجع حليفه باسيل على عدم الاستسلام وان لبنان هو ورقة المساومة الإيرانية في المفاوضات الجارية بشأن استئناف الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة ولو كان حزب الله يريد حقيقة تشكيل حكومة بسرعة فلا يقدر باسيل على مقاومة رغبته
كما زعم بعض المحللون اللبنانيون بأن فرنسا نفسها متساهلة مع حزب الله وهي تسمح للتوسع الإيراني بشكل علني من اجل حماية مصالحها التجارية فيالمنطقة وإن انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي ( أضر كثيراَ بصفقات قطع غيار طائرات وسيارات وقعتها فرنسا مع إيران تقدر قيمتها بمليارات الدولارات ) في حين سخر مصدر دبلوماسي فرنسي معتمد من تلك الاتهامات لكنه اعترف بأن خطة الولايات المتحدة الموازية لتحقيق أهدافها الخاصة من خلال العقوبات أحبطت جهودهم في لبنان
قبل شهور قليلة فرضت فرنسا عقوباتها الخاصة على بعض اللبنانيين المتورطين في الفساد أو عرقلوا تشكيل الحكومة لكنها لم تعلِن عن الأسماء المستهدفة بل اكتفت بتوقيع أخف أنواع العقوبات في اكبرها مجرد فرض ( حظر سفرهم إلى فرنسا )
ونحن هنا نتساءل ايضا مع العديد من الأخوة اللبنانيين لماذا لم تعلن فرنسا أسماء الأشخاص المستهدفين بالعقوبات وهل يحاول الفرنسيون معاقبة النخبة السياسية أم أنهم لا يزالون يضعون أيديهم في أيديهم ونقول بكل وضوح ان ( كل هذه التدابير الفرنسية لا ترقى إلى مستوى التدابير الرادعة أصلًا )
من المفارقات الطريفة أن المجتمع اللبناني الذي قام الفرنسيون بحمايته تاريخيا وكان له صولات وجولات كثيرة وكبيرة ذات حين هو الذي ( خرب وعطل مبادرة فرنسا ) فيما كان بمقدور الفرنسيين استخدام علاقاتهم مع البطريرك الماروني لممارسة الضغط على الرئيس الماروني عون وتخفيف تشدده لكنهم لم يفعلوا وبدلًا من ذلك منح التدخل الفرنسي الوقت الاضافي للنخبة السياسية لـ ( قتل وتحبط وتقلل الزخم ) الذي اكتسبته حركة الاحتجاج بعد الانفجار
حتى الآن لا يزال الناس يعانون والفرنسيون يريدون المساعدة وليس امامهم سبيل سوى نثر بعض الاموال فوق المشكلة ( كمن ينثر الملح فوق الجراج ) لكن تلك الأموال ستساعد السياسيين أنفسهم كالسابق وسيبقى لبنان وشعبه يدورون في حلقة مفرغة خلال معركة عض الأصابع المستعرة بين السياسيين اللبنانيين والفرنسيين مع إصرار السياسيين اللبنانيين على الانتظار حتى ( تسوء الأوضاع حد الانهيار ) لدرجة ربما يشعر الغرب معها بأنه ملزم أخلاقيًّا بتقديم المساعدة الضرورية والعاجلة
امام هذا الوضع القاتم والمشهد المعقد فان فرنسا لها حدود من الاحتمال وان مسؤولية تغيير الحكومة تقع على عاتق اللبنانيين واذا كان اللبنانيون يريدون من فرنسا المساعدة في حل مشاكلهم عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم عبر تضافر جهود نشطاء المجتمع المدني والمرشحين السياسيين المستقلين كحليفً محلي لفرنسا لكن في الواقع ان الحركة الاحتجاجية تسير بلا قيادة وهي منقسمة على نفسها وهذا ساهم في اضعاف الدور الفرنسي بشكل اكبر واوقف المبادرة
يعلم الجميع في لبنان وخارجه أن الطبقة العازلة والنخب السياسية إذا لم تطبّق عليها عقوبات فورية و قاسية فلن يتغير شيء من قبل فرنسا او غيرها والتي لا تزال حتى الآن وعلى مهل تناقش نظام العقوبات المحتمل بالياته المطلوبة مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل ومع ان فرنسا وضعت خطةً لإنقاذ مستعمرتها السابقة من ضيقها وازماتها لكن الأمور سارت في الاتجاه الخطأ منذ البداية
وان حصان طروادة الذي يختبئ بعض السياسيون اللبنانيون في جوفه لن يحميهم طويلا فالشعب ضاق به الوطن ضرعا والجماهير لن تصبر اكثر والانفجار قادم لا محالة والبعض لا زال بقلة وعيهم وضعف امانيهم يراهنون على فرنسا ودورها وخطتها ولا يعلمون كيف ساهم ماكرون وساسته في إفساد الكثير من الأمور في لبنان بعضها معلوم وكثيرمنها خفي
mahdimubarak@gmail.com
.